بقلم /سليم يونس
هي صادمة بكل المعايير الدينية والإنسانية والأخلاقية ، تلك المشاهد الدموية المروعة التي تعرضها بعض الجماعات المتشددة عبر وسائل الإعلام، ترويجا لما تعتبره «صحيح» فكرها، ولأنها كذلك فإننا نعتقد أنه لا يمكن لمن يمتلك حدا أدنى من الإحساس الآدمي كونه إنسانا، إلا أن يخجل كإنسان؛ من هذا المنحى الدموي الذي تتبناه هذه المجموعات، تنفيذا لما يحملونه من تفسير فكري تعسفي للنص الديني، يقوم على تكفير الآخر مقدمة إلى نفيه ماديا، لمجرد أن وهمهم صور لهم أن هذا الآخر مناقض لهم.
إن العنف لم يعد خياراً، يمكن للفرد استخدامه من أجل الحصول على ما يريده، بل صار حتميةً وضرورةً في كل زمان ومكان.
وبعد العثور على التبرير الديني والأخلاقي، تُسخِّر هذه الجماعات المقدّسَ الدينيَ، لخدمة أهدافٍ خاصة، بأن يستخدم «المنهج الانتقائي» في الاستشهاد بالآيات والنصوص والأحداث التاريخية، معتبراً إيّاها ـ بعد تجريدها ممّا تلبّس بها من ظروفٍ بيئية وزمانية وتركيباتٍ نفسية ونظمٍ أخلاقيةٍ واجتماعية ومعرفية خاصّة ـ رُخصةً أو إذناً يشجع على استخدام العنف المتفلّت من أيِّ ضوابط، بل ويحضُّ عليه.
وبنتيجة هذا التشويه الأيديولوجي والتلاعب بالمقدس الديني، نجد أن الصراعات الدموية والتكفير والإخراج من الملّة والتعصب والاحتراب والقتل، هي ظواهر موجودة بكثرة في تاريخ الثقافة الإسلامية، وقد بلغت حدّ اللامعقول واللامفهوم وحدّ العبث، بعدما تحولت شرعية استخدام العنف بوجه المعارضين والمخالفين، إلى سلاح جرى استعماله بأشكالٍ عشوائية مختلفة في أزمنةٍ مختلفة، بغرض التخلّص من الخصوم الفكريين والسياسيين.
كذا أصبح الموروث بكل رموزه وتأويلاته وقصصه مصدراً مهماً من مصادر تشـريع وتبرير ممارسة العنف على النفس وعلى الآخرين، استغلّه البعض… لتسويغ وتفعيل ممارساتها السياسية والسلطوية ولإرساء معايير ومفاهيم وتشريعات ومعتقدات بعينها، من خلال إعادة ترميز العنف، عبر إعادة تفسير «التجربة الأولى»، التي انتهت إلى تأصيل وتكريس نزعات العنف المتوحّشة في مجتمعاتنا(2)
أبحث عن الأيديولوجيا
ويزكي هذه القراءة التجربة التاريخية التي تخبرنا؛ أن كلُّ المجتمعات التي قامت على عقائد، لا على قيم للإنسان، غدت فريسة للعنف الاجتماعي، وأضحتْ فيها المؤسَّسة بديلاً عن العقيدة، والطقس بديلاً عن القيمة والمغزى الديني أو العقائدي. من هنا فإن ثقافة العنف في الفكر والسياسة تقوم على عقيدة مركزية توتاليتارية(حكم شمولي).
وأية عقيدة أو مؤسَّسة تضع نفسها فوق المُساءلة والجدال والنقد والحوار ولو ادَّعت العقلانية والعلم؛ فإنها مع ذلك تؤسِّس لثقافة العنف والتعصب. وأية جماعة تغتصب أدواتِ الحوار، مدَّعيةً احتكار الحقيقة، بحقٍّ إلهي أو شعبي، لا تلبث أن تُخضِع المؤسَّسة والمجتمع المدني لسطوة مزدوجة: سطوة التقاليد وسطوة الاستبداد. (3)
وإذا ما اعتبرنا أن العنف هو نتاج هذه الثقافة المفارقة، فإننا مع ذلك نفرق بين ثقافة العنف المشروع الذي يستمد مشروعيته من الثقافة الإيجابية والعنف السلبي الذي يستمد حضوره من الأيديولوجيا التي تتكئ على معطيات ثقافية مطلقة ونهائية، وهي من ثم تلك الثقافة التي تؤسس لوعي مشوه تعسفي في تعاطيه مع الآخرين.
وإنه لمن خطل القراءة هنا حصر ثقافة العنف في مجموعة بشرية بعينها أو فكر بعينه كونها ظاهرة بشرية لا يختص بها مكان أو زمان دون غيره، ولا تقتصر على دين، أو جنس أو فكر أو ثقافة دون سواها.(4)
ظاهرة عالمية
إنَّ العنف ظاهرة عالمية عرفتها المجتمعات البشرية منذ فجر التأريخ، لكنه ظل منطقاً مستحكماً داخل المجتمعات غير المتحضرة أي المجتمعات التي ترفض الاحتكام إلى القانون ومنطق العقل، وترتكز على القوة في تحقيق أهدافها وأغراضها المشبوهة، وانتزاع حقوقها وتسوية خلافاتها القائمة، واستمر العنف دهوراً طِوالاً، حتى أصبح صفة ملازمة لكثير من الشعوب رغم اختلاف الظروف وتطور الحضارات، وتوغل مفهوم العنف داخل العمق الجغرافي لأغلب بلدان العالم المعاصر(5).
ومن ثم فإن ثقافة العنف في المجتمعات العالمية متفاوتة التبني، فكل مجتمع يؤمن بها حسب معتقداته الدينية والمجتمعية، ولا يمكننا أن نستبعد الفهم الخاطئ للدين عند أغلب هذه المجتمعات التي تتبنى العنف كوسيلة لمواجهة الخصوم والمختلفين عنها دينياً وعرقياً، وإلا بماذا نفسر كل الحروب التي وقعت بين فرقاء دينيين كانت المرجعية المذهبية الدينية الشرارة التي أشعلتها، كالحروب التاريخية والحالية بين الشيعة والسنة في الإسلام وكذلك الحروب التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية، وغيرها من الحروب وأنماط العنف الأخرى كالعنف الفكري والسياسي(6) العبثي التي عانت منه الكثير من المجتمعات عبر التاريخ.
ظاهرة ممتدة
وإذا ما اقتربنا أكثر من منطقتنا العربية وما عاشته وتعيشه هذه الأيام من دموية مارستها بعض القوى، كأحد التجليات المباشرة لحراك عام 2011، فإننا نكتشف أن مفهوم العنف لدى بعض الحركات الإسلامية المعاصرة؛ له جذور شائكة وقديمة تمتد إلى سنة(37هـ) أيام واقعة صفين وظهور الخوارج، في عهد خلافة أمير المؤمنين علي وما تبعها من مصائب وويلات. (7) حيث تلعب الثقافة دوراً أساسياً في دوراته المستمرة من ذلك التاريخ.