حوار: نفيسة حمزة
في لحظات الكارثة حين تتشابك المشاعر بين الهلع والذهول.. وبين الركام والألم.. هناك من يمسك بالكاميرا لا ليوثق فقط.. بل ليُخلد قصة أكبر من الصورة.
المصور الفوتوغرافي محمد أمنينه كان هناك وسط الدمار يلتقط بعدسته ما عجزت الكلمات عن وصفه ويزرع في كل لقطة سؤالا يتردد صداه (ماذا بعد الآن)
في هذا الحوار يأخذنا أمنينه خلف كواليس معرضه الأخير “الما بعد الآن” الذي أقيم الايام الماضية في بنغازي ليحكي عن دوافعه وفلسفته في التصوير وتفاصيل المشهد الإنساني الذي وثقه في درنة بعد اعصار دانيال.
– دعني ابدا معك من لحظة الالتقاط.. ما الذي حرّك عدستك وسط هذا الدمار؟
– ما حركني لم يكن قرارا مهنيا بقدر ما كان دافعا وجدانيا صرفا. كنت أعيش الحدث كواحد من أهله والمشاعر التي انتابتني وقتها كانت قاسية للغاية. الغرق والهلع وفقدان الأحبة.. لكنها في نفس الوقت أظهرت لي مفارقات لم أستطع تجاهلها.. أبرزها مشهد صمود الناس وسط كل هذا الخراب. رأيت بأم عيني كيف كان الجميع يؤدي دوره البعض يرفع الأنقاض وآخرون يساعدون وآخرون ببساطة يفتحون بيوتهم للغرباء رغم انهم فقدوا كل شيء.
– إلى أي مدى تؤمن أن الصورة قادرة على إيصال تلك الحكايات مقارنة بالنصوص أو الأشكال الفنية الأخرى؟
– الصورة اليوم باتت لغة قائمة بذاتها. صحيح ان النصوص تملك سحرها، لكن الناس باتت تقرأ النص من خلال الصورة. الصورة النقية دون تلاعب أو تزويق تمتلك قدرة كبيرة على رواية قصة كاملة وأحيانا تترك أثر أعمق من اي نص.
ما يهمني أكثر أن تفتح الصورة باب الوعي ليس بشكل مباشر دائما.. بل ربما تجعل المتلقي يتأمل ويعيد التفكير أو ببساطة يتساءل: ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك؟
– ومعرض (الما بعد الآن).. ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلاله؟
– أنا شخصيا لا أؤمن ان الفن وظيفته أن يرسل رسالة جاهزة، بل أن يطرح السؤال. عنوان المعرض نفسه كان سؤالا مفتوح. ماذا بعد كل هذا؟ هل نحن مستعدون لمواجهة القادم؟ الصور التي عرضتها ليست مجرد توثيق للكارثة.. بل محاولة لفهم معنى الصمود للناس الذين فقدوا كل شيء ولم ينكسروا.. ومن اختاروا الرحيل ليعيدوا بناء حياتهم من الصفر. كل صورة جزء من حكاية متصلة.
– لا شك ان توثيق مثل هذا الحدث حمل صعوبات كبيرة. كيف واجهتها؟
– الصعوبات كانت هائلة على مستويين نفسي ولوجستي. تخيلي ان تكوني وسط الركام ربما تجدي بين الأنقاض أصدقاءك أو أقرب الناس إليك أو تريهم جثث هامدة. هذا شيء يفوق قدرة اي إنسان على الاحتمال. اما من الناحية العملية فإقامة المعرض كان مجهود ذاتي بالكامل لم يكن هناك دعم رسمي. مؤسسة (براح) مشكورة استضافتنا لكن كل خطوة قمنا بها كانت بجهد شخصي وكل دينار دفعناه كان نتيجة تعب طويل.
– في ظل الصعوبات التي ذكرتها.. هل تفكر بتطوير المشروع لمراحل أخرى؟
– لمَ لا؟ كثير من الأفكار مطروحة.. ربما نحول المشروع إلى كتاب زو منصة رقمية توثّق التجربة بأسلوب تفاعلي مختلف، لكن كما تعلمين التمويل دائما هو مربط الفرس.. هو ما يحدد ما إذا كانت الفكرة ستبصر النور أو تبقى مجرد محاولة مستمرة.
– لفت انتباهي إشارتك لتداخل الصورة مع الفنون التشكيلية.. كيف ترى العلاقة بينهما؟
– بالنسبة لي الصورة الفوتوغرافية امتداد طبيعي للوحة التشكيلية. كلاهما يعتمد على التكوين والضوء والتفاصيل. فالصورة ليست منفصلة عن الفن التشكيلي بل يمكنني القول إنها (ابنته).. حتى في معرضنا كان للفنانة التشكيلية هند الراشدي من درنة حضور مميز. جمعنا أعمالها معنا لأنها تناولت برؤيتها الفترة التي سبقت الكارثة، لتكتمل الحكاية من وجهة نظر مختلفة.
-وأخيرا.. ما السؤال الذي تود تركه في أذهان الحضور بعد خروجهم من المعرض؟
– السؤال بسيط وعميق في الوقت ذاته: هل نحن مستعدون؟ ليس فقط لحدث استثنائي كالذي شهدناه بل لأي احتمال مشابه. السؤال لا يخص الحاضر فقط.. بل هو رسالة غير مباشرة للأجيال القادمة كي يكونوا أكثر وعيا واستعدادا. الصمود الذي رأيته في درنة بعد الكارثة علّمني أن الإنسان متى امتلك إرادة لا تُكسر قادر أن ينهض من تحت الركام ويعيد الحياة لمدينته من جديد.