عرض عبدالسلام الغرياني
هذا الكتاب “الشواطئ المحترقة: داخل معركة ليبيا الجديدة”، يغوص فيه الكاتب والباحث الأمريكي “فريدريك ويري” الخبير في شؤون الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي—في أعماق الأزمة الليبية التي تفجرت بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، مُسلطًا الضوء على تعقيدات الصراع الذي تحوّل إلى حرب بالوكالة تجتذب قوى إقليمية وعالمية. يعتمد “ويري” على سنوات من البحث الميداني، ومقابلات مع أطراف الصراع من ميليشيات وقبائل ودبلوماسيين، ليرسم خريطةً دقيقةً لـ”الفوضى الخلّاقة” التي أنهكت الدولة الليبية.
من الرماد إلى اللهب: رحلة الدولة المنهارة:
يرصد الكتاب التحولات الدراماتيكية في ليبيا من ثورةٍ حملت آمال التحرير إلى ساحةٍ مفتوحة للصراعات العابرة للحدود. يبدأ “ويري” من لحظة سقوط القذافي، مُحللاً الفراغ السياسي والأمني الذي سمح بتفكك مؤسسات الدولة، وتحوّل البلاد إلى فسيفساء من المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات والقبائل. بعيداً عن التبسيط الإعلامي، يكشف كيف أن “الثورة” لم تكن حركةً موحدة، بل تحالفاً هشاً بين جماعات متنافرة، لكل منها أجندتها الخارجية والداخلية.
حرب بالوكالة: لعبة المصالح العالمية:
يُبرز ويري تداخل العوامل المحلية والدولية في إطالة أمد الأزمة. من دعم الإمارات ومصر لخصوم الإخوان المسلمين، إلى دور تركيا وقطر في تعزيز نفوذ حكومة الوفاق، مروراً بتورط روسيا وفرنسا في دعم الميليشيات المتنافسة. الكتاب يكشف كيف تحوّلت ليبيا إلى مختبرٍ لتجربة الأسلحة الحديثة (مثل الطائرات المسيّرة التركية) وميداناً لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، بينما يُدفع الليبيون ثمن هذه الصراعات بدمائهم واقتصادهم المنهار.
القبيلة والدين: وقود الصراع:
لا يتوقف ويري عند التحليل الجيوسياسي، بل يغوص في البنى الاجتماعية الممزقة. يشرح كيف أعادت الحرب إحياء الانتماءات القبلية كبديلٍ لهوية الدولة، وكيف استغلت الجماعات المتطرفة—مثل تنظيم الدولة الإسلامية—الفوضى لتأسيس معاقل لها. كما يتناول الدور المتناقض للدين في الصراع، من خطابات “الجهاد” التي رفعتها بعض الميليشيات إلى محاولات التيار الإخواني توظيف الإسلام سياسيًّا، وسط رفض قطاعات كبيرة من المجتمع.
السرد الإنساني: أصوات من قلب العاصفة:
ما يُميز الكتاب هو إعطاء مساحةٍ لأصوات الليبيين العاديين: مدنيون علقوا بين الميليشيات المتصارعة، شبابٌ يحلمون بالهجرة من بلدٍ بلا كهرباء أو مستقبل، نساءٌ يقاومن محاولات فرض قيود دينية. هذه الشهادات تكشف الوجه الإنساني لكارثةٍ غالباً ما تُختزل في أرقام الضحايا أو تقارير الأسلحة.
نقد الذات: الدور الأمريكي في الأزمة:
كخبيرٍ أمريكي، لا يتورّع ويري عن نقد السياسة الخارجية لبلاده، التي تذبذبت بين التدخل العسكري المحدود (كما في قصف تنظيم الدولة عام 2016) والانسحاب غير المُخطّط، تاركةً الفراغ لتدخلات قوى أخرى. يُشير إلى أن واشنطن، رغم ادعاءاتها بدعم الديمقراطية، تعاملت مع ليبيا كملفٍ ثانوي في استراتيجيتها، مما عمّق الأزمة.
هل من مخرج؟
يرفض ويري إسدال الستار على ليبيا كـ”دولة فاشلة”، رغم الإحباط السائد. يشير إلى مبادرات محلية—مثل جهود بعض المدن لبناء إدارة ذاتية—كأملٍ ضئيل لكنه موجود. لكنه يحذّر: بدون ضغط دولي حقيقي لوقف تدفق الأسلحة، وبدون مصالحة وطنية تعترف بجرائم جميع الأطراف، ستظل ليبيا ساحةً مفتوحةً للصراع إلى أجل غير مسمى.
لمن هذا الكتاب؟
يُعدّ “الشواطئ المحترقة” مرجعاً أساسياً لفهم أحد أكثر الصراعات تعقيداً في القرن الحادي والعشرين. إنه ليس كتاباً عن ليبيا فحسب، بل عن كيف تُحول الجغرافيا السياسية دولاً بأكملها إلى ساحاتٍ للعبث العالمي. بقلمٍ يجمع بين دقة الأكاديمي وحسّ الروائي، يقدم ويري عملاً يُحاكم التاريخ القريب بلغةٍ تدفع القارئ إلى التساؤل: هل كانت الثورة الليبية مجرد شرارةٍ أشعلت شواطئَ محترقةً مسبقاً؟