إشاعة ثقافة العلوم في زمن الشعوذة السياسية
بالحبر السري
بقلم: علي الدلالي
أعود إلى الكتابة مرة أخرى عن أهمية استحداث مدن للعلوم في بلادنا بعد أن رأيت اكتمال السور العملاق الذي أحاط بمقر الشركة العامة للتبغ في منطقة غوط الشعال بطرابلس على الطريق الدائري الثاني أو ما يُعرف بـ “الطريق السريع” لأمر قد يكون، كما أشرنا في مقال سابق، دُبر بليل مسلح لم تتضح مراميه بعد، وتساءلنا لماذا لا يكون هذا الموقع الإستراتيجي الفسيح مقرا لـ “مدينة العلوم الموعودة”.
لا أعرف ماذا حل بقرار مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية في أكتوبر عام 2021 إنشاء مؤسسة علمية تكنولوجية تسمى “مدينة العلوم والتكنولوجيا”، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، وتخضع لإشراف الهيئة الليبية للبحث العلمي، ويكون مقرها بلدية سواني بن آدم بطرابلس، ولكن أخشى أن يكون أصابه ما أصاب قرارات أخرى عديدة بات ينطبق عليها قول الشاعر “ووحدة في الدرج سنُفنى ويُفنى من بعدنا الأحفاد ولن ترى النور”.
تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) إن إنتاج المعارف والمعلومات من خلال العلوم يُعد وسيلة تساعدنا على إيجاد حلول للتحديات الكبرى التي نواجهها اليوم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ووسيلة تمكّننا من تحقيق التنمية المستدامة وبناء مجتمعات أكثر مراعاةً للبيئة. وبما أنه لا يمكن لأي بلد تحقيق التنمية المستدامة بمفرده، فإن التعاون الدولي في مجال العلوم يؤدي دوراً هاماً في تعزيز المعارف العلمية وبناء السلام.
وتساعد (اليونسكو) الدول على الاستثمار في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وعلى رسم سياسات وطنية للعلوم، وإصلاح النظم العلمية، وبناء القدرات على رصد الأداء وتقييمه استناداً إلى مؤشرات وإحصاءات خاصة بالعلوم والتكنولوجيا والابتكار تراعي المجموعة الواسعة من الخصائص التي يتميز بها كل بلد. وأتساءل أين ممثلينا لدى هذه المنظمة الدولية لطلب مثل هذا الدعم خاصة وأن (اليونسكو) قدمت الكثير من الدعم إلى بلادنا منذ استقلالها وقامت ليبيا بتمويل المشروع العالمي الضخم لموسوعة كتابة تاريخ أفريقيا العام التي صدرت في ثمان مجلدات وترجمت إلى العديد من لغات العالم.
ما دفعني للعودة إلى الكتابة في هذا الموضوع المهم ما قرأته قبل أيام عن قيام ملك المغرب محمد السادس بافتتاح مدينة المهن والكفاءات الرباط – سلا – القنيطرة، في تامسنا بالقرب من الصخيرات، التي تشكل جزءا من برنامج شامل، يتم بموجبه إنجاز 12 مدينة مهن وكفاءات على مستوى مختلف مناطق المغرب باستثمار إجمالي يقدر ب 4,4 مليار درهم، يعكس الاهتمام الخاص الذي يوليه العاهل المغربي لقطاع التكوين المهني كرافعة استراتيجية لتحسين التنافسية الاقتصادية، ومسارا واعدا لتحقيق الإدماج المهني للشباب.
وتحتضن مدينة المهن والكفاءات الجديدة في المغرب ستة أقطاب قطاعية مخصصة لاكتساب الكفاءات المهنية، مع ست منصات تطبيقية مدمجة، من أجل تكوين يعتمد على التعلم بالممارسة عن طريق تمارين تحاكي الواقع المهني الذي يوافقها، وذلك لتمكين المتدربين من خوض تجربة تكوينية مهنية حقيقية طيلة مدة التكوين.
إن بناء مدن للعلوم في كافة ربوع ليبيا وخاصة في كبريات المدن، طرابلس، بنغازي وسبها، كمرحلة أولى، من شأنه أن يسرع نقل الخبرات والتجارب ونتائج البحوث العلمية إلى منتجات منافسة تدعم النمو الاقتصادي الوطني، ويُساهم في برامج التنمية المستدامة وإتاحة فرص عمل جديدة لحديثي التخرج، ويدعم الشركات حديثة التكوين من خلال إنشاء شراكات قائمة على أسس الابتكار والاستمرارية.
يُمكن أن أزعم هنا أن إشاعة ثقافة تأسيس مدن للعلوم في ليبيا سيغنينا عن اللجوء إلى الكثير من الإجراءات الإرتجالية وربما الحماسية التي قد تُعيدنا إلى العصور الوسطى، منها على سبيل المثال تأسيس “حراس الفضيلة” وقيام مجلس النواب، في ذروة استمرار الإنقسام السياسي واحتدام الصراع على السلطة والمال والنفوذ واستباحة تراب ليبيا من قبل القوات والقواعد الأجنبية وحشود المرتزقة، وانحسار الأمل في تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بحشد طاقات النواب الأفذاذ لإصدار قانون مكافحة السحرة والمشعوذين في زمن الشعوذة السياسية الذي تعيشه بلادنا اليوم.