الشعر المحكي هو نمط حديث يتميز باستخدام اللهجة العامية في التعبير دون قيود القافية والبحور الشعرية التقليدية .وهو يعكس التنوع والثراء الثقافي للمجتمع الليبي .
ويعتبر الشعر المحكي مكونا ثقافيا مهما يعكس الهوية المجتمعية لنقل الثراث وله القدرة على التعبير عن المشاعر بلغة قريبة من الناس .
غير أن الشعر المحكي يواجه تحديات تتمثل في نذرة الدراسات النقدية وعدم ظهور أصوات جديدة تقتفي أثر رواده .
إن هذا النوع من الشعر ليس للنخب ولا لأصحاب رباطات العنق .إنه حكاية أخرى ولدت على الطرقات والأرصفة حيث المراكب والمراسي القديمة .حيث القوافل والابل والليل والناي والسهر .
وأنا اجلس مستمعا لثلاثة من فحول الشعر المحكي ذات ليلة في أزقة المدينة القديمة .روادني شعور بالغربة والخوف على نمط مستحدث لا يتجدد وعلى ياقوت فقد بريقه وعلى صوت مبحوح .وعلى وتر أرتخى بفعل القصائد المكررة ولم يتبق من انفعالات الشعراء سوى عيون حائرة وبعضا من أوراق قديمة تتطاير في الهواء وكأنها تريد الفرار إلى العدم .
شعرت للمرة الاولى أن ضي القمر لم يعد صالحا للصيد وأن توحشتك ذابت في دروب الوحشة .
شعرت للمرة الاولى أن هذا الشعر الذي ولد غريبا واخترق الأفئدة والقلوب بجمال تراكيبه وموسيقاه ربما سيموت غريبا مالم تتجدد ذاكرته ويستعيد بريقه .
شعرت وللمرة الأولى أن الثلاثة قفزوا في تلك الليلة إلى الضفة الأخرى .إلى ضفة الشعر الشعبي لتمرير الوقت وجنح الرقيعي إلى شعر الومضة وكأنه يتنصل من أرث قديم لم يعد قادرا على مجاراته .
شعرت وللمرة الأولى أن الثلاثة خرقوا السفينة المحملة بدواوينهم للتخلص منها على عجل .فلا جديد في نصوصهم الشعرية ولا خطوط جديده لتطويره .ويتعين على رواده إدراك حقيقة أن منجزهم في خطر وإن التخفي خلف نصوص قديمة مكررة لا يساعد في استمرار هذه التجربة العميقة ولا في تقدمها وانتشارها.
يدرك أصدقائي الشعراء أن نقدي نابع من حبي وحرصي وخوفي على هذه التجربة من الضياع والفقد وهذا لا يعني أن الأنماط الشعرية الأخرى قد تألقت وبلغت غاياتها .فهي ايضا تواجه تحديات كبيرة .