عمــق
بقلم / علي المقرحي
ليست النزعة العنصرية التي تفاضل بين الأجناس والأعراق البشرية لتقرر سمو بعضها وتدني بعض ، قائمة بمعزل عن الميول التنميطية التي تقسم المجتمع الواحد إلى طبقات وطوائف ، ولا تأنف عن أن تسحب مفاضلاتها تلك على الأفراد وعلى علاقاتهم البينية ، مطوبا هذا ومدينة ذاك .. فضيق الأفق وسطحية النظر وضحالة الفهم، وتهافت الفكر واللغة والموقف ، هي القواسم المشتركة بين النعرات العنصرية والنزوعات التنميطية ، وهي ما ينتهي بهما معا إلى فقر المعنى ونضوب القيمة . حتى لقد نخلص من التأمل فيهما إلى أنهما صيغتان لفكرة واحدة أو وجهان لعملة بعينها وتجسيدا لكينونة واحدة شائهة ، إضافة إلى ما توقفنا عليه التجربة التاريخية والإجتماعية للجنس البشري من أن تلك الكينونة الشائهة بوجهيها هي أسوأ أعداء الإنسان ، فردا ومجتمعا .
ورغما عما للتاريخ وأحداثه من أهمية ومن إمكانية إلقاء الضوء على الحاضر ، وكشف عما تنطوي عليه تضاعيف الراهن ، وما يكمن في الواقع المعاش من معان ، وما يدلل على فقره أو ثرائه من مناقب وقيم ، رغما عن ذلك كله ، يبدو الإلتفات إلى الراهن والخوض في الواقع المباشر ، الإمكانية الوحيدة المتاحة لحديث مقتضب لم نختره ، بل اختارت طبيعته وحدها ( لنا وله ) أن نتطرق فيه إلى راهن الثقافة والمثقف في مجتمعنا ، وإلى فعلهما وأثرها في واقعنا ، وفعل الواقع وأثره فيهما ، فالثقافة كمفهوم متداول ، هي الأداة المؤهلة أكثر من غيرها من أدوات وأساليب المعرفة للإحاطة بالواقع واستيعابه وفهمه وتفسيره والتعبير عنه ، كما أنها الأمكانية المتاحة « أو يفترض أن تكون « للواقع ليعي ذاته ويكتشف نقاط ضعفه وقوته ، ويتعرف إلى قدراته وامكانياته المؤهلة للإرتقاء وتجاوز راهنه ، كما أنها « إذا ما ابتليت بالكساح والجمود والتحجر « المعول الهادم لكيانه والنافي لوجوده ، ويعني ذلك أن المثقف من بين كل الخائضين في الواقع ، المخول دونهم جميعا، بمواجهة كل ما يعترى ثقافة مجتمعه من قصور وتنقيتها من كل ما يثقلها من أوثان المواضعات والفرضيات بما يضفى عليها من قيم وقداسة مفتعلة تحت يافطة « الثوابت «. وتنظيفها مما يزحمها من سفسطة ومغالطة .. ودون أن يغفل عن حقيقة أن الثقافة باعتبارها جماع ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات ، وخلاصة وعيه بواقعه ، وأنها بالخلاصة « دون مناقضة لما لها من عديد التعريفات ، ولا غض منها « السؤال عن المعنى « معنى أي شيء وكل شيء « وعما يتأسس على ذلك المعنى من قيم ، والأهم من ذلك ألا تفوته حقيقة تعذر قيام اجتماع بشري بل حتى حضور فرد آدمي دون ثقافة ، فكل إنسان مثقف ، وكل إنسان « وعى ذلك أو لم يعه « يواجه في كل وقت سؤال المعنى والقيمة ويجد وراء إجابة ذلك السؤال ، وبغض النظر عما هي عليه ثقافته ، وسواء كانت أفكاره ورؤاه وآراؤه ومواقفه نتاجا لجهده الخاص وإنشغاله الفعلي المتأتي عن تنامي وعيه ، أو كانت متوارثة ومستعارة ومنتحلة ونتاج استمراء للمفتاح والمتداول وانسياق معه ، يظل مثقفا .. ونظل نحن عند نقطة هذين الضربين من الثقافة في مواجهة السؤال عمن يكون المثقف فعلا ؟ ، وهل المثقفون فئة ؟ … طبقة ؟ … طائفة؟ … أم نمط من البشر ؟ .