خلود الفلاح
الرواية فن سردي قادر على تبني قضايا مجتمع ما، والتأثير فيه، وتوجيهه نحو تغيير أنماط سلوكه وتفكيره، والارتقاء بالذائقة الجمالية، ولكن إلى أي مدى تقتفي الرواية أثر هذا الواقع؟ هل هي تستدرجه فقط وتتمرد عليه دون أن تكون طبق الأصل؟ هل هي ملزمة بأن تكون وثيقة تاريخية واجتماعية؟ وكيف يمكن للروائي أن يمزج بين واقعين الحقيقي والخيالي؟
في هذا الاستطلاع، تحدثت روائيين عن مدى استفادتهم من الحياة بكل تراكماتها في الكتابة الروائية، وكيف أن الرواية لم تعد تناقش الواقع فقط، بل تملك قدرة التنبؤ بما قد يحدث.
المزج بين الخيال والواقع
يؤمن الروائي الليبي الصديق بودوارة أن الرواية وفي جميع حالاتها لا تقتفي أثر الواقع فقط، إنها بمعنى آخر تكتبه وتخلق الكثير من حالاته. ويضيف: الرواية أيضاً تسجل الواقع، بمعنى أنها تؤرخ له وتدون يومياته ومعاناة الناس العاديين فيه. على سبيل المثال في رواية (العطر) لزوسكيند، يلجأ المبدع إلى تأطير حالة شبه اسطورية عندما يجعل من الروائح وسيلة بطله في الحياة وصنع الحدث، لكنه يترجل من علياء اسطورته إلى واقع باريس المزري في زمن الرواية ليصور بمهارة تفاصيل يومياتهم. وفي رواية (النمل) يلجأ برنارد فيربير إلى الاتكاء على علم دراسة الحشرات ويستفيد من معايشته لعلماء مختصين في حياة النمل طيلة سنوات قضاها في ساحل العاج حيث أكبر مدن النمل ومستعمراته ليمزج بين أحداث في مدينة نمل تحت الأرض وأحداث شخصيات بشرية تعيش في منزل فوق نفس المدينة.
ويرى الصديق بودوارة، أن المؤلف يصعد دائماً إلى الواقع، وقد يمزج بين واقعين، وحتى لو كتب خيالاً فهو ينقل تجربة حياتية له أو لغيره أو لمجتمعه أو لمجتمعات أخرى ليقدمها في عمله الروائي. نفس الرؤية نجدها في روايات نجيب محفوظ ـ خير من اقتفى أثر الرواية دون مساس بباقي التفاصيل ـ أو عبد الرحمن منيف أو الطاهر وطار وغيرهم. القائمة طويلة، لكن المحتوى لا يختلف كثيراً، والمعنى في نهاية المطاف واحد، الرواية لم تعد تقتفي أثر الواقع فقط، إنها تمزج بينه وبين عوالم أخرى، وتستخلص منه، وتضيف إليه.
رؤيا متنوعة
تقول الروائية الليبية عائشة الأصفر أن الرواية متغير لا يهدأ ولا يستقر، فن في حالة صيرورة دائمة، كتلة هلامية تتجدد في حركة ديناميكية مستمرة تتشكل مع الحياة في جدلية لا يمكننا التنبؤ بمآلها وأشكالها وطفرات بنائها، حالها في ذلك حال الواقع. الواقع الذي يصبح مملكة الروائي التي يفككها ويهد مبانيها ويمحو رسمها ليعيد بناءها من جديد مملكةً أخرى بالشكل الذي يحلو له ليحقق متعة الرواية.
وأشارت عائشة الأصفر أن الرواية تشبه إنسان يمشي عاريا وحياة بلا خجل، ما يعني أنها تغوص في الواقع، لكن هذا لا يعني أنها نسخة منه وإلا لما حققت أدبيتها، فهي تمثيل تخييلي للواقع بلغة مختلفة وتصوير مغاير، تفكك الواقع وتعيد جمعه، ومدى التخييل هو الذي يحدد مدى واقعية الرواية ومدى اقتفائها أثر الواقع، الرواية تسير على هامش الواقع كظلال لخيالات سابحة، خيالات تسبح فوقه كغيمة ترشه بزخات جمال، خيالات تخلق واقعا موازيا له، هي كسقف أعلى جاذب يلتقط أشياء لامعة تحته، أو لنقل مثل كاميرا ترصد من بعيد رسوما متحركة لأشخاص تراهم ولا يرونها، شخوصها يمشون على الواقع بأطراف أصابعهم.
واستطردت ” الرواية الحقيقية تستدرج الواقع وتتمرد عليه تحاصره بأسئلتها الملحّة، ترفض السائد والجاهز لتصنع واقعها الفريد، حاملة في أزقة سطورها دلالاتها الثقافية ورؤيتها الواعية لخطابها، ثمة خيط رفيع لا ينقطع، لكنه وهمي مثل خطوط الطول ندرك أهمية وجوده ودقته ولا نلمسه، خيط يصل الرواية الهامش بالواقع، الظل بالضوء، الخيال بالحقيقة، لتصبح الرواية أصدق وثيقة للواقع دون أن تقصد التأريخ أو تطابقه.
خيال المتلقي وذوقه
لا ينكر الروائي الجزائري عز الدين جلاوجي، على أن الفن عموما ومنه الأدب لا يمكن أن ينفلت من قبضة الواقع مهما كان شكله ونوعه، ومهما غالى هذا الفن في التحليق بعيدا في فضاءات التخييل، ولا يمكن للسريالية والتكعيبية والدادية والرمزية، وحتى للخرافة والعجائبية والأسطورة والخيال العلمي، أن تزعم أنها منفصلة كليا عن الواقع، وبالتالي يمكن أن نجزم أن الأدب ومنه الرواية ليست إلا تعبيرا عن الواقع، وهي إذ تفعل ذلك لا يليق بها أن تكون مجرد تصوير فوتوغرافي بارد لهذا الواقع، لأن الفن ارتقاء، يعتمد أدوات فنية جمالية مختلفة ليرتقي بخيال المتلقي وذوقه.
وتحدث عز الدين جلاوجي عن طغيان الرومانسية على الرواية العربية في بداياتها، لكن سرعا ما ارتبطت بشكل أشد بواقع المجتمع الذي تعبر عنه، فكانت صدى كل طبقاته في سعيها نحو تحقيق واقع اجتماعي وسياسي أفضل، وقد مثل ذلك روايات نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وحنا مينا، وغيرهم، وما كادت الرواية العربية تنجو من الغرق في حمأة الواقعية المباشرة التي جعلت منها مجرد بيانات أيديولوجية، حتى ارتقت مرة أخرى، لتخوض غمار بحار التجريب ومحيطاته، وبدأت تعبر عن الواقع بأدوات وأساليب مختلفة تيمة وبنية.
وتابع: والظاهر أن النصوص الروائية الكبرى التي حققت النجاح هي التي ارتبطت أكثر بواقع المجتمع وتاريخه وموروثه، وعبرت عن قضاياه الكبرى، كنضاله السياسي ضد الدكتاتوريات، ونضاله الاجتماعي ضد الطبقية، ونضاله الحضاري ضد الآخر المحتل والآخر الصهيوني، وغيرها من القضايا، بل وانطلقت من فلسفته السردية في ارتباطها بالأشكال السردية العربية المختلفة قديما وحديثا، مع ملاحظة أن النصوص التي حاولت أن تكون مجرد صدى لنموذج المركز ظلت على الهامش، لأنها انفصلت عن واقع الإنسان العربي وقضاياه الكبرى، وراحت تلهث خلف تجارب تعكس واقعا آخر وتقتفي آثار نماذج انطلقت من فلسفات معينة، هذه الفلسفات التي نشأت في ظروف تاريخية وسياسية واجتماعية مختلفة.
وثيقة اجتماعية
افتتحت الروائية الليبية غالية الذرعاني حديثها، بالإشارة إلى قول الباحث أ.أ. مندلاو في كتابه (الزمن والرواية) بأن “السرد يمدنا بالوسائل التي تساعد على تشخيص مجموعة من الحقائق في صور حياتية هي الرابط بين واقع نحياه في غفلة عن قوانينه، وبين عوالم ممكنة تصفي التجربة وتدفعها إلى مصاف المخيال.
علينا أن نثق في العوالم الممكنة لا في الحقائق المسرودة” وهو بذلك يؤكد بأن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر تمثيلاً للواقع، ومع ذلك فهو يثق في (العوالم الممكنة) لا في الحقائق المسرودة.
واعتبرت غالية الذرعاني أن الرواية ليست الواقع بكل تفاصيله، بل هي قناع الواقع، وهي كما وصفها البعض “وثيقة اجتماعية” يمكن من خلالها فهم المجتمع، والوقوف على أبعاد تفكيره وتعامله مع الحياة، وكلما كانت الرواية قريبة من نبض المجتمعات، كانت أعمق وأبلغ في التعبير عن هموم الذات والإنسان، لكن ذلك لا يعني استنساخ الواقع ومحاكاته ونقله إلى القُراء بطريقة آلية ميكانيكية وبرؤية ضيقة، لا تحمل بين ثناياها أيّ دلالة ثقافيّة أو اجتماعيّة أو تاريخية، وتقديمها للقارئ على أنّها تجربة خرساء ومجال فارغ من القيم والدلالات.
وأضافت: الشكل الأدبي هو سلوك اجتماعي يعكسُ تحولًا وثقافة مجتمعية، ويستجيبُ تبعًا لذلك لهذا التّحول بهدفِ احتوائه والتعبير عنه في أدق تفاصيله، ومع ذلك فالخيال السّردي يسمح بتجاوز معضلات الواقع الاجتماعي، حتّى تبقى قريبة من نبض الإنسان والعالم، وشخصيات العمل الروائي نابعة من الخيال، لكنها تسير في أحداث الرواية نحو الواقع، أي أنها تمثل الواقع وتعبر عنه. إن الرواية ليست هي الواقع وحده، وإلا لن تصبح عملاً فنياً، بل وثيقة تاريخية، كما أنها ليست هي المتخيل وحده، ولا ينبغي لها تسير في المتخيل بعيداً، حتى لا تفقد مصداقيتها.