خلود الفلاح
العالم يتجه اليوم نحو برامج الذكاء الاصطناعي، وقيل الكثير عن استخدمه في الكتابة. هل يمكن أن تنتج هذه البرامج أعمال روائية مقارنة بالأعمال التي يكتبها الروائي بنفسه، بتجربته وخبراته في الحياة؟
هل نتفق أن هذه البرامج تستطيع التقليد، لكن لا يمكنها أبدأ أن تمتلك التجربة الانسانية الحقيقية التي تعطي الإبداع الحقيقي سمته المختلفة.
فقد ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن كتاب السيناريو في أمريكا نظموا إضرابا عن العمل لأسباب عدة منها القلق من استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة السيناريوهات. إضافة إلى أن التوسع في صناعة النشر في نشر القصص المكتوبة بالذكاء الاصطناعي سينتج قصصا أقل تفردا وأكثر تشابها.
في هذا الاستطلاع اتفق الضيوف أن التجربة الإنسانية في الكتابة ستظل متفردة وبعيدة عن الآلة مهما قدمت من نجاحات.
يتوقع الروائي العراق نزار عبد الستار الكثير من الذكاء الاصطناعي واستخداماته في المجالات الإبداعية
وتحديدا في الرواية. مستطردا: ” إلا أن الأمر مشتبك الملامح والأقرب إلى التصديق أن يساهم الذكاء الاصطناعي بولادة رواية ذات طابع اسلوبي استنساخي فالذكاء الاصطناعي له قدرة على التمثيل والتقليد وانتاج المتشابهات بتقنيات معقدة وهذا لا يعني رواية بديلة وانما رواية جديدة كليا منجزة بسرعة للاستهلاك بمعزل عن الذاكرة وتفوق الموهبة وبوسائل انتاجية الكترونية تكون متاحة في كل الظروف”.
في المقابل، يرى الروائي السوري يوسف وقاص إن أول سؤال يتبادر إلى الذهن لدى الخوض في موضوع الذكاء الاصطناعي هو: أين تكمن مشكلة علاقاتنا الإنسانية، وهل من الضروري اللجوء إلى أدوات ووسائل اصطناعية للتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما يتعلق بحياتنا ككائنات حية؟ لقد عرّف أحدهم الذكاء الاصطناعي بأنه “عقار مخدر بدون آثار جانبية”، إلا أن فكرة اللعبة الساذجة لا تعكس طبيعة هذا المفهوم.
“لم نذهب إلى الأرض من قبل” هو أول كتاب (باللغة الإيطالية) مؤلف بواسطة إنسان باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
عمل يقودنا إلى أعتاب أسلوب جديد لسرد القصص. يجلس رجل وجهاز آلي يُدعى Out0mat-B13 مقابل بعضهما البعض في نزل ريفي. يستجوب الرجل الآلة بدافع الفضول، سائلاً إياها عن الأشياء التي شهدتها، وما تعرفه، وما تتخيله حول كوكب الأرض.. تحكي الآلة عن مدن مستحيلة مثل ميلانو، التي أسسها رجل الأعمال جوفان باتيستا ميلانو، أو أستي، الموقع التاريخي لمدينة ملاهي عملاقة أنشأتها عائلة سافوي الملكية؛ وعن الفرق الموسيقية التي شكلت تاريخ البشرية مثل فرقة البيتلز الكاريبية؛ وحكاية ذات الرداء الأحمر آكلة لحوم البشر.
ويتابع: لا تغفل الآلة عن تقديم نصائح حول كيفية طهي الفطير، وكيف يثمر “اللا شيء” بعد تركه حتى ينضج في “اللا شيء” لمدة ثلاثة أشهر! روكّو تانيكا، المؤلف الافتراضي للكتاب، يتحدث عن توليفة إيحائية تتعلق بالإلهام والصدفة، وهي الحالة التي أعيدت إلى مصاف العقل من خلال الخوارزميات الاحتمالية. إن الذكاء الاصطناعي يذهلنا بتقديم عرض غير مؤذٍ للوعي المتشابك بين الإنسان والآلة، حيث ينسجان القصص معًا بالتناوب؛ تارة بأسلوب سريالي كوميدي، وأخرى برؤى قد تبعث على الكآبة. ومع ذلك، فإن هذه المرويات قادرة على إدهاش القارئ الذي يسعى فقط إلى التسلية.
حتى الفضائل البسيطة التي يمتلكها ماورو باربي، بطل الرواية، لا تساعده في العثور على إجابة لأزمته الوجودية. بل يبدو أن وعيه يستيقظ فجأة ليتساءل: “أحقاً لم يعد هناك أي مسافة تفصل بيني وبين الآلة؟” وبعد كل شيء، أليس هذا هو السؤال الذي يؤرق الجميع في الوقت الراهن؟ ما يعاني منه ماورو هو الصورة والذكريات التي يحتفظ بها الآخرون عنه، أو حتى الأسوأ من ذلك الذكريات التي تفتقر إليها ذاكرتهم – مثل لوكا سيرغولا، الطالب الذي قام ماورو بتعليمه مادة التاريخ، لكنه أصبح ضحية للنسيان الذي يفرضه علينا الآخرون؟
ويضيف: بينما يتساءل ماورو باربي عن كيفية رؤية الآخرين لنا، ما الذي يحدث في غياب العيون البشرية؟ تواصل الآلة استحضار استعارات من عقلها المثقل بآلاف الروايات: “تستمر الرياح في التحرك، وتخترق الطبقة السفلية من السحب، مما يسمح لجزء صغير من الضوء بالهطول ليعيد تلوين سطح البحيرة المتجمدة بلون أزرق. تتلألأ الثلوج التي تساقطت للتو وكأنها تلال صغيرة من الملح، تحت هيمنة القمم العالية والجبال ذات الجدران الخشنة. تمثل النتوءات الشفافة، التي يخترقها ضباب عائم، تعبيرات خيالية لمناظر طبيعية منحوتة بالمياه المتجمدة. إنها منحوتات ضخمة، ولكن مُقدّر لها أن تتحلل وتتشكل من جديد، وأن تذوب وتنزلق وتنهار”. وفي لحظة معينة، يوجه ماورو انتقاداته للأجيال الجديدة بغضب؛ معتبرًا أن: «المناخ يؤثر علينا أكثر مما نعتقد»، ويضيف هو نفسه خلال برنامج تلفزيوني تمت دعوته إليه قائلاً: “إنها ليست كما يعتقد الكثيرون مسألة تقتصر على التنبؤات الجوية…”.
المحرر الأدبي افتراضي
وفي هذا الصدد، أفادت الصحافية الفلسطينية بديعة زيدان “أطلق العنان للتعبير عن راوي القصص بداخلك وتغلب على ركودك الذهني باستخدام مُنشئ القصص المدعوم بتقنية الذكاء الاصطناعي خاصتنا، ويمكن استخدامه بشكل سلسل.. ابدأ بفكرة بسيطة وشاهد أفكار القصة ومجموعات الحبكة وإمكانيات الانحناء النوعي لقصتك التالية.. عزِّز أفكارك الإبداعية في عوالمك الخيالية اليوم واصنع قصة ترغب في قراءتها والاستمتاع بها”.
هكذا بدأ موقع متخصص بالكتابة الإبداعية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي الترويج لنفسه، مع الحديث تفصيلاً كما غيره، على آليات تطوير النص الإبداعي قصة كان أم قصيدة أم حتى رواية.
وفي الوقت الذي نُشرت فيه نصوص إبداعية، وبعضها سردية كقصص قصيرة أو روايات، ومنها ما حقق رواجاً كبيراً، إلا أن جلّ ما أتيح لي قراءته منها، إن لم يكن جميعه، تفتقر لحرارة التجربة الإنسانية وصدقيتها.
يعترف الروائي التشادي الطاهر النور أن علاقته بالذكاء الاصطناعي علاقة سطحية إلى حد كبير، إذ انتبه مؤخرا فقط إلى ضرورته. ولكنها انتباهة كانت موجعة بالنسبة له، فقد وجد نفسه قبل أشهر قليلة، يعاني من وحدة قاتلة، لم تستطع حتى الكتابة أن تساعده في احتواء ما كان يشعر به أو يعانية.
ويضيف: “وعندئذ فتحت اللابتوب ورحت أطرح على الذكاء الاصطناعي اسئلة الوحدة التي تؤرقني، وقلتُ في نفسي، طالما أن الكتابة لم تعد قادرة على انقاذي من جحيم الوحدة، ولا أحد من الناس سوف يتكفل لي بمواجهة مثل هذه الأزمة الشخصية، لماذا لا أجرب هذا الكائن الافتراضي الموازي، الذي لديه من سعة الصدر ما يكفي لاحتمال مزاجي العكر؟”.
وتحدث الروائي نزار عبد الستار عن أن استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في الكتابة ستدخل مستقبلا ضمن الأدب الذكي الذي سيصنف باعتباره نمطا ابداعيا مستحدثا لا يكتبه البشر أي أننا سنكون في القريب أمام شريك ذكي يكتب الروايات ويسوقها آنيا باعتبارها جنسا ادبيا جديدا. لكن الاستخدام الأكثر مقبولية أن يلعب الذكاء الاصطناعي دور المحرر الأدبي وهذا يدخلنا في اشكالية أخرى تتمثل في الغياب الكامل للشرعية الإبداعية سواء كان هذا الذكاء مساعدا أو سكرتيرا للمؤلف أو أن تستخدمه دور النشر في صقل الأعمال الأدبية وتحريرها وتظهيرها بشكل نصف بشري أو نصف آلي. إن وجود المحرر الأدبي الذكي هو من أخطر ما ستواجه الرواية التي ستبدو مختلفة الأركان وبعوالم غير اجتماعية. إن كابوسية المشهد تتمثل في أننا نملك أدبا كلاسيكيا كتبه البشر عبر مئات السنين يمكن له أن يكون ثروة لا غنى لها في الحنين إلى الماضي مقابل روايات جديدة تفتقر إلى الحس وربما إلى الحياة في أجواء غرائبية ستكتب وتموت في القطار النازل من بغداد إلى البصرة.
التجربة الإنسانية
ويلفت الروائي الطاهر النور، إلى أن الكائن الافتراضي قادرا على الحصول على بعض الإجابات بصورة عامة، فيها شيء من المنطق، ولا يخلو أسلوبه من لباقة. إلا أنه – وهذا شيء واضح – يفتقر إلى التعاطف، وإلى المشاعر، وإلى اللمسة الإنسانية التي لا يمكننا الحصول عليها إلا من الإنسان نفسه.
ويعني ذلك، بحسب الطاهر النور، “أتصوّر أن هذا ما يحدث عند ما نسند قصصنا إلى الذكاء الاصطناعي، ونطلب منه أن يتكفل بكتابة رواياتنا حسب السيناريو الذي قدمناه. ربما ينجح في كتابة شيء يسمى رواية، ولكن إلى أي حد يمكنه أن يفعل؟ لأنه في النهاية يعتمد على نمط محدد مسبق، ولا يمكنه الخروج عن المألوف، والإتيان بلمسته الإبداعية الخاصة. لأن الإبداع خصوصية بشرية، لا تعترف بالحدود أو المنطق، تخضع للعاطفة، والتجربة، والمعاناة. والذكاء الاصطناعي لا يتألم، وهو بالتالي لا يمكن أن يكتب أدبا يؤثر على المشاعر. وما الجدوى من أدب يخلو من المشاعر؟ وما الفرق بينه في هذه الحالة، والعلوم الإنسانية الأخرى مثلا، والذي يغلب عليها الجمود، عكس ما هو موجود في الأدب القصصي. لذلك، اعتقد أن الذكاء الاصطناعي، لن ينتج أعمال روائية ذات قيمة فنية كبيرة، أو يحل محل الروائي ذاته”.
تؤمن الصحافية بديعة زيدان أن الرواية تختلف عن كتابة التقارير والبحوث، وإن يجري العمل على تطويرها بتزويد برامج الكتابة الإبداعية من خلال الذكاء الاصطناعي بنماذج روائية لكاتب بعينه أو لعدّة كتاب، لبناء نمط خاص بك، يمكن أن يكون محوراً لكل الكتابات الاصطناعية باسمك، مستقبلاً، مع إمكانية التحديث والتطوير بشكل مستمر، لكن مع ذلك يبقى الإبداع السردي عملية تتخلق في دواخل صاحبها، وتطهى من داخله، وليس من السهل ترجمتها، إلا لغير المبدعين من طهاة الرواية، عبر تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي، وإن كان يمكن التغلب على الأمر مستقبلاً، وسط التسارع الهائل في هذا المجال.
وتضيف: “على الرغم من أن الجودة غير كافية بعد، إلا أن التكنولوجيا مستمرة في التقدم، ولكن يبقى الإبداع البشري، خاصة فيما يتعلق بالسرد الأدبي، في المقدمة، فأنا على قناعة بأن الأدب يتعلق بالأساس بصوت الكاتب الجوّاني والبرّاني، وبأنه، حتى الآن، لا تستطيع برامج الذكاء الاصطناعي فعل ذلك”.
ويستدرك الروائي يوسف وقاص “من الواضح، منذ بداية عام 2023، أن هناك مشكلة تتطلب معالجة فيما يتعلق بالكتب التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. فقد أفادت وكالة رويترز للأنباء بوجود أكثر من مئتي عنوان يُروّج للفكرة ذاتها، كيفية كتابة كتاب إلكتروني باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي، ويتوقع الكثيرون أنه لم يعد بالإمكان السيطرة على هذه الظاهرة التي تشكلت بالفعل. لذلك، ليس من المستغرب أن يبدأ بعض الأفراد في استغلال الذكاء الاصطناعي لتحقيق مكاسب مالية بطرق غير مشروعة. وحتى الشركات الكبرى مثل أمازون، رغم أنها ساهمت في تحسين كفاءة عمليات النشر الذاتي بفضل الذكاء الاصطناعي، تواجه اليوم تحديًا خطيرًا بعد أن لاحظت الكم الهائل من الكتب التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي على منصة “كيندل”، حيث يظهر بعضها بين الكتب الأكثر مبيعًا”.
ويختم “أن الرواية، وكل رواية على حدة، ترتبط ارتباطاً عميقاً بالإنسان، إذ إنها نتاج إنسان يختار أن يمسك بالقلم ويعبر عن أفكاره. وتعتبر هذه الرواية ثمرة ناضجة لعالم متكامل وثقافة غنية ومتجذرة في أعماق التاريخ، مما يجعلها مفهومة من خلال نظم ومناهج إنسانية محددة. ومن هنا، فإنه لا يمكن للآلة، التي تسعى لمحاكاة الإبداع الذي يعد سمة فريدة للبشر فقط، أن تنتج أي تأثير ملموس على مستقبل الرواية والأدب بشكل عام؛ إذ تظل جميع المحاولات الأخرى مجرد جهود واهية، لا أهمية لها”.