عبدالسلام الغرياني
نشرت مجلة “ذا نيويوركر” في عددها هذا الاسبوع مقالاً تحليلياً كشفت فيه عن ظاهرة مقلقة تُظهر تحوّل أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “ChatGPT” إلى قوالب جاهزة تُضعف الأصالة الإنسانية وتُنمّط طرق التفكير. وتستند المجلة في تحليلها إلى دراسات علمية حديثة تُثبت تراجع النشاط الدماغي والإبداعي لدى المستخدمين المنتظمين لهذه التقنيات.
في تجربة محورية أجراها باحثو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على 54 مشاركاً، لوحظ تراجع ملحوظ في الموجات الدماغية المرتبطة بالإبداع لدى مستخدمي الذكاء الاصطناعي، مع ظهور ضعف واضح في الاتصال العصبي بين مناطق الدماغ المسؤولة عن الابتكار والذاكرة. وقد عبّر ثمانون بالمئة من المستخدمين عن شعورهم بغربة النصوص المُنتجة عن هوياتهم الشخصية، فيما أظهرت متابعة المشاركين بعد ثلاثة أشهر تراجعاً ملموساً في مهارات الكتابة الذاتية وصعوبة في استدعاء المعلومات دون مساعدة رقمية.
وتتجلى ظاهرة التوحيد الفكري بشكل واضح في تجربة جامعة كورنيل التي شملت مشاركين من ثقافات متنوعة، حيث قدّم مستخدمو الذكاء الاصطناعي محتوى متطابقاً في البنية والمفردات مع إهمال التفاصيل الثقافية الفريدة. فبدلاً من وصف مكونات الطبق الهندي “برياني” التقليدية، اكتفوا بعبارات عامة مثل “نكهات متعددة”، بينما قدّم غيرهم وصفاً دقيقاً للأرز المعطر بالزعفران واللحم المتبل بالبهارات المحلية.
يرى الخبراء أن جذور المشكلة تكمن في ثلاثية خطيرة: تلقين الأفكار الجاهزة الذي يُثبّط جرأة التجريب الفكري، واعتماد الشركات على نماذج “مقبولة عالمياً” لتعزيز الربحية، وما ينتج عنه من كسل إدراكي يتوقف معه العقل عن توليد الأفكار الأصيلة. وقد عبّرت البروفيسورة لينا شودري من جامعة ستانفورد عن تحفّظها تجاه بعض النتائج، مشيرة إلى أن انخفاض النشاط الدماغي قد يعكس كفاءة في بعض الحالات، خاصة عند استخدام الذكاء الاصطناعي بعد إتمام عملية التفكير الذاتي.
توصي المجلة بخطوات عملية للحد من هذه الآثار، منها تطوير نماذج ذكاء اصطناعي تستوعب التنوع الثقافي، وإدماج مناهج نقدية في التعليم لتحليل المخرجات الرقمية، مع تقييد استخدام هذه الأدوات في المهام الإبداعية الأساسية بالمؤسسات الأكاديمية. ويختتم التقرير بتحذير للفيلسوف نعوم تشومسكي من أننا “أول حضارة تُفوّض عملية التفكير لآلات، مما يهدد جوهر إنسانيتنا”.
الحال مع الامريكان انتج هذه البلبلة و اغتراب المفاهيم و تجردها، غير أن التجربة عند لغة الضاد و اللهجات المتفرعة عنها أكثر بلبلة ومدعاة للسخرية، لقد بلغ بنا الحال أن يُختزل تراثنا اللغوي الثري في نصوص الذكاء الاصطناعي إلى بيانات قابلة للضغط! ففي ليبيا – حيث يُفترض أن يكون “البخنوق” قصةً ترويها الجدّات – يصفها “المساعد الذكي” بأنها “سجادة صوفية بتصميم هندسي”.. وكأنه يحدّد مواصفات دبابة!
وعند وصف “الهريسة” الليبية تصبح: “مادة غذائية لزجة بنكهة الفلفل” و “القهوة بالهيل” تتحول إلى “مشروب منبه حارّ”.. فكأننا نشرب ماء نار!
اللهجة الليبية متحفٌ من التهكم الذكي:
فـ “شْنُو هالْدوشة” (ما هذا الفوضى) لا يمكن للآلة فهمها.. لأنها تحتاج إلى سطور لشرح الكلمة! ومن أمثالنا مثل “اللي ما يعرف الصقر يشويه” ستفقد روحها وتصير: “من يجهل قيمة الشيء يسيء استخدامه”.. وكأننا في محاضرة إدارة أعمال!
يقول أحد المبرمجين الليبيين ساخراً:
“عندما طلبت من ‘شات جي بي تي’ أن يكتب لي زجل ليبي.. أرسل لي نشيداً وطنياً لجمهورية التشيك!”
قبل أن تتحول لهجتنا إلى “لغة ميتة” في متحف غوغل..
يجب أن نعرف أن الذكاء الاصطناعي مثل”البُرّاني” (الغريب) الذي زار ليبيا: إن أعطيته قهوةً بلا هيل.. ظنَّ أننا بخلاء!
وإن سمع “يا سمي صبي المي” (نداء المطر).. ظنّه إنذاراً صاروخياً!
إلى ذلك يصبح تراثنا مجرد ‘ملف إكسل’!
لأننا إن سكتنا.. فسيأتي يوم تصف فيه”السبيبة” بأنها “ممارسة جماعية لتحريك الأطراف في الفراغ”..
وعندها – يا سادة – نكون قد بعنا هويتنا بأرخص الأثمان!
يبقى التحدي الأكبر في عصر الذكاء الاصطناعي هو تحقيق التوازن الدقيق بين كفاءة الآلات وأصالة العقل البشري، حفاظاً على التنوع الفكري الذي يمثل أساس التطور الإنساني.