حسام الوحيشي
وأنت تدلف إلى العقل من أزقة الريح المقابلة للبحر- مد كفه ليشير للمكان- أجل هناك تماما بعد القوس وقبل الإوز اللطيف، يسارا حيث الرفوف الخشبية التي تعرض القصص الدافئة وأنواع القهوة المثلجة، يوجد كرسي قديم وطاولة تثقلها بعض الكتب، ارفع ذقنك قليلا ستعثر في الخط الفاصل بين الجدران الهرمة والأرض المتعبة- سأعثر على ماذا- إنه أمامك الٱن عاليا .”تقصد الساعة التي لا تدق”! أقصد قلبي إنه في الشرفة يراقب “إيتالو كالفينو” يجلس على الكرسي أيها العزيز، ربما هي عكاز لقضاء يوم عريق بين الوجوه التائهة دون الوقوع في الباحة وإطلاق اللعنات كخروف أسود أو نعجة داكنة ترعى العشب الضنين النابت بين السور الأثري والتاريخ.
(بدأت أفهمك يا سيدي، ببساطة لديك قصة مفضلة كتبها صاحب “المدن الخفية” تريد أن تتشاركها معنا). أنا لا أتعمد أن أكون غامضا ولكنكم لا تأتون دائما، هيا لنذهب، تعال معي وأنظر كم هي ساحرة.( سأشرح لهم يا سيدي، وسأختبر بديهتي أيضا، الحكاية بعنوان “الخروف الأسود” أليس كذلك؟)… بالتأكيد، لقد أصبحت تتحدث لغتي، سنصبح أصدقاء أنا واثق.
“كان جميع سكان البلدة من اللصوص، ما أن يهطل الليل حتى يطفئوا الشموع ويخرجو لسرقة بيوت جيرانهم، وقبل الفجر يعودون للنوم سعداء، عاشوا سواسية كل شخص ينهب من الٱخر، والٱخر يسطو علي غيره وهكذا، لا أحد يشكو من الغش في الأسواق، جميعهم يتذوقه من الجميع كل يوم ولا داعي للتذمر أبدا، الحياة على ما يرام، حتى جاء شخص شريف للبلدة وأقام بها، وقرر أن لا يسرق و لازم منزله طوال الليل ؛ شعر جيرانه بالخيبة وصار لزاما عليهم تنبيهه.
من حقه أن لا يعمل ولكن ليس من حقه أن يمنع غيره من ممارسة نشاطه الطبيعي ، إن كل ليلة يقضيها في سريره رفقه أسرته تحرم عائلة من رزقها وتجعلها تتضور جوعا، عليه أن يترك الٱخرين يهتمون بشؤونهم ويفعل ما يشاء بدوره. كيف له أن يعترض على هذا المنطق ؟ ، أخذ يغادر البيت بمجرد إطلال المساء متوجها إلى الجسر الذي يصل بين شطري القرية لاستمتاع بخرير الماء المتدفق في النهر ومراقبة النجوم تاركا بيته يتعرض للسطو، بعد حوالي أسبوع أصبح الشخص الشريف معدما، الجدران هي كل ما تبقى له، سرق كل شيء ولكن هذه ليست هي المشكلة.
المشكلة أنه أربك النظام لأنه ترك الٱخرين ينالون كل ما يملك بينما هو لم يغنم شيئا ليسرقه اللصوص حين يأتون الى بيته الفارغ، هناك من يعود إلى أهله خالي الوفاض، تصرفاته الرعناء تنشر الفقر، قلة هم المحظوظون الذين وجدوا ما يسطون عليه كل ليلة فقرروا الذهاب إلى الجسر للاستمتاع بصوت تدفق الماء ومنظر النجوم اللامعة ، و لتفادي فقدان ثرواتهم لاستمرار عمليات السطو المنطقية، استأجروا الأكثر فقرا لحراسة ممتلكاتهم وقد عني هذا استحداث قوات شرطة وبناء سجون لمعاقبة سراق القصور .
(اسمح لي يا سيدي يبدو لي أن إيتالو كالفينو انساق وراء مغالطة في خروفه الأسود، إذا كان العمل الوحيد المتوفر هو اللصوصية ومصدر الرزق الحصري هو المسروقات فمن الذي ينتج الثروة، يجب أن يكون هناك إنتاج ليجد اللص ما يسرق، حتى إن لم يأت الشخص الشريف إلى البلدة ستحدث نفس النتيجة، ستتناقص المسروقات مع الزمن بسبب الاستهلاك حتى تختفي نهائيا، يجب أن يمارس أهالي البلدة أو جزء منهم على الأقل عملا منتجا للسلع فعلا لكي يجد اللصوص قوتا يسد رمقهم ).
هذا صحيح تماما هذه البلدة الخيالية ولا يمكن أن تكون حقيقية مطلقا، البلدات الواقعية تحتوي على شرفاء ولصوص و شرطة وفيها أنواع هجينة أيضا.
(هل تعني أن هناك لصوصا شرفاء ولصوص لصوص وشرطة لصوص وشرطة شرفاء يا سيدي).
يا عزيزي أنت تفهمني حقا ولكنك لا تقرأ بين السطور جيدا، انتمى إيتالو كالفينو في بداياته إلى الحزب الإيطالي الشيوعي قبل أن ينسحب منه إثر اجتياح الاتحاد السوفياتي للمجر في منتصف خمسينيات القرن الماضي، لهذا يكتب أحيانا عن الطبقات بشكل غريب، خارج الأيدولوجيا الماركسية هناك أغنياء شرفاء وأغنياء لصوص وفقراء شرفاء وفقراء لصوص ومنتجون شرفاء ومنتجون لصوص وهناك نفط أيضا وبلدات أخرى …