منصة الصباح

الحلم الأمريكي

إطلالة

بقلم / جمال الزائدي

بالرغم من الصعود الملحوظ لبعض القوى الجديدة على المسرح الدولي بعد سقوط ثنائية النظام العالمي القديم بانهيار ما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية..وبالرغم من التوقعات والتنبؤات المتواترة بظهور منظومة متعددة الأقطاب لسد الفراغ .. مازال الزمن العالمي زمنا أمريكيا بامتياز .. ما يتوفر للولايات المتحدة كإمبراطورية مهيمنة على أقدار الكوكب ، لم يتوفر لإمبراطوريات غابرة سيطرت في فترات تاريخية سابقة على « رقع» واسعة من جغرافية المعمورة ..فأمريكا لاتتفوق ماديا فقط  بامتلاكها عسكريا للتكنولوجيا القتالية المتقدمة وحيازتها لاكبر مخزون من أسلحة الدمار الشامل .. واحتفاظها بما يقرب من 25 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي ، بناتج محلي يتجاوز الـ 21 تريليون، إلى غير ذلك من عوامل التفوق المادي .. لكنها تتفوق معنويا أيضا ، وهذا الأهم على المستوى الاستراتيجي برواج نموذجها الثقافي والسلوكي الذي يقدم للعالم نمطا معيشيا يسعى الجميع إلى تقليده ، بفضل التسويق المكثف الذي تقدمه وسائل صناعة الرأي وتشكيل الفكر وتوجيه الاهتمام ، ممثلة في «ماكينات» الاتصال والإعلام والإعلان وشركات الإنتاج السينمائي ودور النشر العملاقة  المنتجة – لما يسميه مفكرو السياسة الجدد – الرأسمال الرمزي .. في هذا الوجه من أوجه القوة يختلف المشروع الامبريالي الأمريكي عن المشاريع التي سبقته والتي اعتمدت في انجاز وجودها على القوة المادية الغاشمة في التوسع والهيمنة والسيطرة على الشعوب الأخرى.. على سبيل المثال الإمبراطورية الرومانية التي تربعت فيما يقرب من العشرة قرون على جغرافية ثلاثة أرباع العالم القديم بالاحتلال المباشر ، لم يبق من تأثير لوجودها على الأرض التي استعمرتها غير الأوابد الحجرية التي تتآكلها عوامل الطبيعة عبر الأزمنة او ما احتفظت به مدونات المؤرخين من اخبار المجازر والمذابح..ذلك أن الرومان ظلوا في حال انفصال عن الشعوب التي استعمروا بلادها ولم يستهلكوا دقيقة واحدة في محاولة صياغة هويتها المحلية ودمجها في الهوية الرومانية المهيمنة .. الولايات المتحدة الأمريكية ظاهرة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل ، ولذلك لا يمكن مقارنتها بما سبق .. وهيمنتها الثقافية وجبروت رأسمالها الرمزي على المعمورة لا تنطبق عليهما قاعدة ابن خلدون العتيقة حول تقليد المغلوب للغالب ، لأن النموذج الأمريكي أبهر الجميع منذ ما يقرب من القرن دون أن يضطر الأمريكان الى مغادرة حدودهم إلا في مناسبات معدودة فرضتها عليهم ضرورات تحصين تفوقهم الاقتصادي والعسكري.. الحلم الأمريكي الذي غزا عقول وخيال أجيال بأسرها كنمط لحياة استهلاكية باذخة ، أقوى من اقتصاد أمريكا ومن احتياطياتها النفطية والنقدية وأقوى من أساطيلها وصواريخها الباليستية وقواعدها التي تنتشر في كل بقاع الأرض وتدفع الدول المستضيفة تكاليف وجودها.. ولذلك فإن التنبؤات التي تشبه الأمنيات بمغادرة اليانكي موقع البطل في العقود القريبة القادمة تبدو بعيدة عن التحقق ،ويبدو أن القرن الحالي سيكون قرنا أمريكيا كسابقه.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …