زايد … ناقص
جمعة بوكليب
حين بدأتْ دورُ العرضِ السينمائية في أمريكا وبريطانيا، وبقية العواصم الأوروبية، في عرض فيلم ” نابليون بونابرت” من اخراج البريطاني ريدلي سكوت، تابعت ما كتبَ حوله النّقاد البريطانيون في الصحف من آراء. وكلهم تقريباً اتفقوا على جودة الفيلم، وأطنبوا مسهبين في مدحه. وحظي الفيلم بعدد 4 نجمات من خمس، تقديراً. إلا أن نقاد السينما في فرنسا، وكذلك الجمهور الفرنسي، لم يعجبهم الفيلم، وعبروا عن استيائهم منه، ومؤكدين أنه قدّم الجنرال، والامبراطور الفرنسي، في صورة مغايرة لحقيقته التاريخية، وبشكل مشوه وسيء.
العلاقة التاريخية بين البلدين الجارين، بريطانيا وفرنسا، ليست خافية على أحد. الحروب بينهما قديماً ما لها حد، سواء على أرض القارة العجور – أوروبا، أو في غيرها من بقاع العالم الأخرى، خاصة إبّان الحقبة الامبريالية الاستعمارية.
في الأسبوع الماضي، اتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم. وتبيّن لي أن من حق الفرنسيين أن يشعروا بالاحباط والاستياء وعدم الانصاف. وأن صورة الجنرال الأمبراطور الراحل نابليون بونابرت قد تعرضت للتشويه وللظلم والاجحاف قصداً ” وعيني عينك.” ذلك أن الفيلم قُدّم من رؤية بريطانية غير صديقة لفرنسا، ومعادية جداً، حدّ الكراهية، للجنرال بونابرت. وربما لذلك السبب، غادرتُ صالة العرض قبل نهايته، ومتذكراً المثل الشعبي الذي يؤكد على أن ” اللي يكرهك يحلم لك الحلمه الشينه.”
الجنرال الكورسيكي المولد، والأمبراطور الفرنسي، فيما بعد، نابليون بونابرت، كان جنرالاً بعقلية عسكرية استثائية، وبالطبع، مثل بقية البشر، لا يخلو من مثالب وسقطات. لكن طموحه للمجد لم يعرف حدوداً، وشكل تهديداً خطيراً لممالك وأمبراطوريات أوروبا آنذاك، مما أضطرها، بقيادة بريطانيا، إلى التحالف ضده عسكرياً، والحاق الهزيمة به في معركة واترلو المشهورة، في بلجيكا في يوم 18 يونيه من عام 1815. واحدة من أكبر محطات قطارات الانفاق في لندن، تحمل اسم تلك المعركة، تخليداً للنصر، الذي وضع نهاية مؤسفة للجنرال الفرنسي الطموح.
وفي الأيام القليلة الماضية، قرأت خبراً في صحيفة بريطانية، يقول باختصار، إن عظام آلالاف من الجنود والخيول والبغال من قتلى معركة واترلو اختفت. وأن فريقاً من علماء الآثار، بعد مرور قرابة مائتي عام على المعركة، لم يجدوا منها سوى جمجمتين فقط، من خلال كل عمليات الحفر البحثية التي قاموا بها. وتبيّن لهم فيما بعد، أن تلك العظام قد استخرجت بعد فترة زمنية على مرور المعركة، وتمَّ استخدامها في صناعة الأسمدة وفي تبييض سُكر البنحر. ولتلك الغاية، يضيف الخبر، قامت بلجيكا في عام 1836 بتصدير 3 ملايين كيلوجرام من العظام إلى فرنسا. التقرير الاعلامي منقول عن ورقة بحثية، منشورة في “جورنال تاريخ بلجيكا.” ويؤكد مؤلفها إن ما حدث لعظام القتلى في معركة واترلو ليس جديداً، بل أمر معروف، وتقليد قديم. وأن مواقع الكثير من المعارك الكبيرة، سواء أكانت في أوروبا أو في المستعمرات، تعرضت للاغارة بهدف الاستحواذ على عظام القتلى. وأعترف شخصياً أن هذه الحقيقة أصابتني بدهشة. وكنت قبلها أظنُّ أن لصوص المقابر في العالم يستهدفون ممتلكات الموتى مما يدفن معهم من ذهب ومعادن ثمينة وغيرها.
وفي ليبيا، يطلق على أولئك اللصوص اسم ” نبّاشة القبور.” وهناك مثل شعبي في هذا السياق يشير إلى” طريحة نبّاش القبور”. ومفاده أن أحد النباشة ضُبط متلبساً بالجُرم، وضُرب ضرباً مُبرّحاً حتى صارمَثلاً. ومازال المثلُ يردد إلى يومنا هذا. لكن تلك “الطريحة” المشهورة، لم تفلح مطلقاً في ردع “نبّاشة” القبور.