منصة الصباح

الجهل منبت الأمراض جميعاً .

 

بقلم /على المقرحي

لا يعني هذا العنوان أن على الناس ليتمتعوا بالصحة ويحافظوا عليها أن يتعلموا الطب ، وإلّا لكان تحليقاً في أجواز الوهم ، لكن المراد بعيد عن ذلك وإن لم يقم في قطيعة كاملة معه ، أما ما يمكن استخلاصه مباشرة هو التأكيد على العلاقة الشرطية بين الجهل والمرض ، أما ما يمكن لنظرة توغل فيما وراء المباشر والظاهر فهو أن الجهل بذاته مرض .
بل أن الجهل هو أسوأ الأمراض جميعاً ، أما إذا استحكم وغدا مزمناً ، فإن الجهل يضيق آفاق الحياة ويختزلها في عادات عيش بليدة تجتر ذاتها من خلالها ، ويجعلها تدور مثل ثور ساقية معمّى حول محور حاجاتها المباشرة والمتدنية ، لتعود مع نهاية كل دورة تدورها إلى النقطة التي انطلقت منها ، ولا يتوقف فعل الجهل المزمن بالحياة عند هذا الحد بل هو يقطع عليه سبيل مجرد الأمل في أن تتحرر من سجنها الذي يفرضه عليها وأن تتجاوز واقعها وتنفلت مما استمرأته قسراً من تبلد وابتذال .
هكذا باختزالها في عادات عيش قميئة ، ( أحسنت السيدة غادة السمان توصيفه حين إشارت إلى أن حديه ” سرير وقصعة طعام ” ) ، تفقد الحياة كل ما يمكن أن يثريها ، والذي هو تحديدا ( المعنى ) الذي يقف إلى جانب غيره من المعاني الذي يفيض عنها الوجود وبها تغتني كائناته ومنها تستمد قيمها ،
لكن مجرد الاختزال ينطوي ( بحكم طبيعته ) على امكانية كمال ما ، فما الاختزال إلا بتر وتقليص وتضييق مخل لحدود ما يسقط عليه الاختزال ، ولذا فهو لا يوافق الانسان مثلاً أو فكره بقدر ما لا يوافق الحياة نفسها ، فالإنسان هو دائما أكبر من كل القوالب التي يراد بها تقليص كيانه أو اختزاله في صفة من صفاته أو مَلَكَةِ من مَلَكَاته ولا في ميزة من ميزاته بما في ذلك عقله أو فكرة ، فلا يمكن الاكتفاء بالقول أن الانسان كائن عاقل لتعريفه إلا جزئيا ، لا لشيء إلا لأن العقل لايختلف في شيء عن ( الغريزة ) من حيث أن كل منهما تجل من تجليات الوعي ، ودرجة من درجات تطوره ، كما أنه لا معنى للوعي إلّا بالإضافة إلى الحياة نفسها ، التي تتعرف إلى ذاتها عند مستوى الغريزة في الحيوان الذي تقتضي أن يمارسها وفق امكانياته الغريزية ،التي تحدد مستوى وعيه لوجوده وحياته ولكيانه الخاص الذي لا يحتمل إلا مجازا أن نسميه ( ذاته ) ، إن ضيق حدود وعي الحيوان واقتصاره على التحسس الغريزي المباشر والارتكاسي وإن إرتقى فلا يتجاوز حدود الإنطباع المباشر والسطحي ، لا يؤهله لامتلاك حس الذاتية وما يرتبط بها من خصوصية وتميز، ولذا فمن الطبيعي أن يقبل دون امتعاض ولا نقاش أو تساؤل العيش ضمن قطيع وأن يواصل العيش فيه مستمرئا عادات ذلك القطيع التي تشابه حياة كل قطيع آخر ، ومواضعاته الغريزية ، فلا يتطلب الوعي في مستوى الغريزة ولا يفرض ممارسات حياتية تتجاوز العيش المباشر والاستجابة إلى متطلبات الطعام والتكاثر ، وبقدر ما لا يفكر الفكر في المعنى والقيمة سواء ما تعلق منها بحياته أو بكيانه أو بغيره من كائنات عالمه .
وللوعي في مستوى العقل شأن مغاير تماما لشأنه في حدود الغريزة ، ودون أن ينفصل عنه أو ينفيه . ففي مستوى العقل يسمو الوعي عما دونه من مستوياته ، ويغدو مؤهلاً لتنظيم تلك المستويات وتهذيبها والارتقاء بها وذلك من خلال التعاطي معها من منظور ما بلغه من تصورات وافكار المعنى والقيمة ، ففي مستوى الغريزة قد ينساق الكائن الحي مع نداءات الغريزة حتى يتجاوز في انسياقه مع تلك النداءات حدود الاكتفاء والشبع ، وهو أمر يبدو إن لدى الحيوان المحكوم بالغريزة وحدها كوابح توقفه عند حدود معينة تضمحل قدرة تلك النداءات عندها على استثارته ، لكن ما يبدو من شأن الانسان الذي يتميز بالعقل من افتقار لتلك الكوابح إو ربما لوهنها لديه ، ومن انسياقه مع غرائزه ما يبرر تسميتها بالشهوات والأهواء تمييزا لها عن الغريزة النقية والتلقائية لدى الحيوان ، ذلك أن في الشهوة والهوى لا يكون العقل غائبا لكنه قد يكون من الضعف حد أن يتخلى عن ذاته ويخضع لتواطؤ الارادة مع الغريزة ، وذلك لا ينحط بالإنسان إلى مستوى الحيوان بل إلى مادونه يقول الخالق تعالى في سورة الفرقان : – ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤) )
وهنا بعض من معاني الجهل ذلك الداء المزمن . وكم هي كثيرة تلك المعاني لكن كثرتها دون تجلياتها وتجسيداتها في الواقع البشري ، رغم ما يزحم ذلك الواقع من البائس من دعاوى وإدعاءات المعرفة والحكمة .

شاهد أيضاً

شهر رمضان…..وفلسفة النسوان

باختصار أعي جيداً أن مقالي هذا سيثير حفيظة الكثير من القراء، لاسيما معشر النساء، ولكني …