الجلاء الأصغر والجلاء الأكبر
بقلم: علي الدلالي
صادف يوم الأحد الماضي الـحادي عشر من يونيو الذكرى 53 لإجلاء القوات والقواعد الأمريكية عن التراب الليبي وهي ذكرى وطنية بامتياز ممهورة في التاريخ الليبي المعاصر ومتوطنة في الذاكرة الجماعية لليبيات والليبيين التي هي جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
قاوم الليبيون على خلفية كره الإستعمار والوصاية والإنتداب، الاحتلال الإيطالي الفاشيستي بكافة الوسائل طيلة عقود منذ أن وطأت أقدام جنوده التراب الليبي عام 1911 واستمروا في تقديم القرابين عقودا طويلة قبل الإستقلال وتأسيس المملكة الليبية التي، رغم كل التضحيات، رأت أن تتماهى وقتذاك مع سياسات الإستعمار وذهبت إلى حد القبول بالتواجد العسكري الأجنبي في شكل قواعد عسكرية، وإن كان البعض حاول بالأمس واليوم تبرير ذلك الفعل المشين بروايات عدة من بينها مزاعم الحصول على الأموال الضرورية لإدارة الدولة الفتية الناشئة.
كانت الولايات المتحدة تسيطر على عدة قواعد جوية وقواعد للإمداد والدعم اللوجستي والتجسس في ليبيا أبرزها قاعدة “هويلس” التي سُميت بعد رحيل الأمريكان قاعدة عقبة بن نافع قبل أن يُعاد تسميتها قاعدة معيتيقة الجوية على إسم طفلة ليبية قضت تحت حطام طائرة حربية أمريكية. كانت القاعدة تتربع على 52 كلم 2 على ساحل طرابلس وتضم مهبطا لأكبر الطائرات، ميادين للتدريب، مخازن للأسلحة التقليدية والإستراتيجية، ناديا بحريا، ملاعب رياضية، قاعات سينما، مدرسة ثانوية تتسع لـ 500 طالب، محطة إذاعة وتلفزيون، مركزا للتسوق، مكتب بريد، مطاعم ومنشآت أخرى للترفيه … لقد كانت أمريكا مصغرة في شمال أفريقيا، كما وصفها أحد الأمريكان في ذلك الوقت.
أنزلت الولايات المتحدة علمها في 11 يونيو عام 1970 ورحلت عن التراب الليبي كقوة عسكرية مهيمنة ومن قبلها رحل الطليان الفاشيست والإنجليز، بعد أن احتلوا جميعا الأرض الليبية بالقوة ودون استئذان، إلا أنه بعد أربعة عقود ونيف من هذه الذكرى الوطنية تمكن الوجع منا بعد أن رأينا أن من بين “الليبيين” الذين تصدروا المشهد بعد 2011، من استدعى القوات الأجنبية ومنح لدول أجنبية قواعد عسكرية على التراب الليبي على حساب سيادة ليبيا واستقلالها وكرامة شعبها وجلب حشود المرتزقة الأجانب لتدنيس التراب الليبي وقتل الليبيات والليبيين.
إن الحديث اليوم عن تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في ظل هذا التواجد العسكري الأجنبي الكبير المقدر بحوالي 20 ألف جندي ومرتزق وانتشاره في عدة قواعد جوية بلغت 10 قواعد أكدت عليها بيانات رسمية أصدرتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وفي ظل حشود من المرتزقة دنسوا تراب ليبيا بأحذيتهم الهمجية، في غرب البلاد ووسطها وشرقها وجنوبها، لا معنى له، في اعتقادنا، وعلى الليبيات والليبيين جميعا الوقوف بكل قوة خلف اللجنة العسكرية المشتركة (5 + 5) لتطهير الأرض الليبية من كافة أشكال التواجد العسكري الأجنبي ومن حشود المرتزقة، والاستعداد لمواجهة هذا التواجد المهين لسيادة ليبيا ولكرامة شعبها بشتى الوسائل، إذا لزم الأمر، ومتابعة كافة المسؤولين عن تمكينه من تراب بلادنا وسمائها وبحرها، وتسليمهم إلى العدالة.
الثابت أن معضلة التواجد العسكري الأجنبي تشكل، إلى جانب تمسك المسؤولين عن جلب هذا التدخل بكراسيهم في المشهد الليبي، أكبر تهديد للعملية السياسية في ليبيا وتنظيم الانتخابات تمهيدا لبناء دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة وتحقيق التنمية وإنهاء مصادرة القرار الليبي. وما الحديث عن القوانين الانتخابية وازدواجية الجنسية وحق العسكر في الترشح إلا محاولات بائسة لتضليل الشعب الليبي واستمرار معاناته.
قرأنا وسمعنا عشرات الروايات السمجة عن اتفاق أطراف النزاع على إخراج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وصدور أكثر من قرار دولي يشدد على ضرورة تطبيق هذا الاتفاق ومعاقبة المخالفين، إلا أن جميع هذه الاتفاقات والقرارات ومحاولات الردع والتخويف حتى في أوساط مجلس الأمن، باءت بالفشل لأنها في الواقع تسويق للوهم … المسؤولون الروس يقولون إنهم متواجدون في ليبيا بناء على دعوة من حكام شرق ليبيا … المسؤولون الأتراك يقولون إنهم متواجدون في ليبيا بناء على دعوة من حكام غرب ليبيا، فيما تُنكر دول أخرى، وهي كاذبة، أي تواجد عسكري لها في ليبيا.
لا أرى أمام الشعب الليبي الذي حقق الجلاء الأصغر للقوات والقواعد الأجنبية نتاج الإحتلال والقوة الغاشمة، إلا الإنخراط اليوم في تحقيق الجلاء الأكبر للقوات والقواعد الأجنبية التي جلبها ذيول الإستعمار.