محمد الهادي الجزيري
أقدّم لكم كاتبا بارعا في شدّ القارئ وإلقائه في دوّامة التلقّي والتفاعل الإيجابي مع ما يُسرد عليه من قصص وخواطر وأسئلة وهواجس ..، هذا الكاتب من تونس ويُعدّ من أبرز أصوات السردية الجديدة أصدر إلى حدّ الآن أربع مجموعات قصصية وكتاب أكاديمي وتُوّجت ” كأن أمضي خلف جثتي ” بجائزة معرض تونس الدولي للكتاب ، وحازت ” أزياء لقصائد السيدة سين ” على جائزة كتام آر لأفضل مجموعة قصصية ..، أقدّم لكم ” الجحيم وخمس دقائق ” وصاحبها عيسى جابلي …
” أمّ الزين جيعان ” هذا عنوان المتن السرديّ الأوّل في هذا الهبوب الإبداعي الحرّ والمنفلت من كلّ عُقال ومدرسة وإطار ..هذا المسمّى بروح استثنائية لعيسى جابلي ..، أبدأ به تفاعلي مع نصوصه وخاصة أنّه ( النصّ الأول ) وقع على وقوع الحافر على الحافر ، فالموضوع ببساطة يطرحه أغلب الكتّاب القلقين وهو رداءة الكتابة وجودتها ، والقصة تدور حول كاتب تقليدي وقارئ حديث ..، ويخترقها خيط فاصل يتمثل في محاولة بناء قصة معاصرة ابنة زمانها ..، وبعد أن يتوغل السارد في القصة ..، يعترف لنا بمحدودية الموهبة والابتكار ..ويقول لنا حرفيا :
” ولا شكّ في أنّ هناك من يكتب أسوء من هذا ..وليكن ..” وهنا ينطق عيسى جابلي على لسان كلّ متطفّل على الكتابة النورانية / الجحيمية ..الكتابة الكامنة في الذات الخارجة من جراحاتها وعذاباتها.. ويبرّر كلّ فاشل سقوطه المريع في الرداءة ..، ونرى السارد مراوحا بين أحداث القصة ( جمع من الشيوخ في جهة ما من تونس ..وحكاية أحدهم المتضرر من الجوع والمشتكي للمعتمد ) وتفاعل الكاتب المتنمّر مع ما يكتبه ..، فيصل بنا السارد إلى شهوة كلّ كاتب ورغبته الدفينة في أن يصبح ذات يوم من المبدعين الأفذاذ الكبار:
.. شعر بالبطولة لأنّه وجد القصة التي يبحث عنها ، فأخذته السعادة إلى تصوّر نهاية ترتقي بالقصة إلى تشيخوف ودوستويفسكي وماركيز وكبار الكتّاب في العالم
وأخيرا يحوّل الساردُ الكاتبَ العجوز إلى تمثال جامد ..نكاية فيه ليراه الناس إلى الأبد فهو في حالته تلك أصدق على الوضع الذي يعيشه هو وأمثاله من أنصاف المواهب…
” الموتى لا يعودون ” قصة ثانية ما شدّني فيها سوى الصور الشعرية وسعة خيال الكاتب ، أمّا المتن فيتحدّث عن مفرق الجماعات ..الموت الذي نفكّر فيه ونمضي إليه حين ينادينا الأجل المحتوم ..، تبدأ القصة بإعلان وفاة الجدّ وتنتهي بموت السارد ..وما بينهما أسئلة لا جواب لها سوى : الموتى لا يعودون ..، أمّا الجمل التي شدّتني فمن ضمنها :
تخيّلتهم يلعبون مع الشمس ، تسابقهم في المسارب الترابية الملتوية ، يتوارون خلف أشجار الدفلى المزهرة ، فتلاحقهم باسمة بضفائرها تلفّها على خصورهم وتسحبهم إلى حضنها مجدّدا ، تعلّق لهم أراجيح في السحب ، فتلعب بهم الريح حتّى اليوم التالي
ومن ضمنها :
” لذلك لمّا مات ، ظللت أدور حول نفسي ، لا أدواته التي تملأ زاوية الكوخ تفهم ما حصل، ولا أنا ..حتّى بَلْغته الثقيلة ظلت باهتة ساكنة عند خدّ الكوخ كضفدع متحجّر..”
ثمة قصة قصيرة جدّا لفتت انتباهي وهي بعنوان ” البجعة الثالثة ” ..وفيها التركيز على بجعتين واحدة مقتولة من قِبل القطار وأخرى مدهوسة ولكنها على قيد الحياة ..، وقد أعلنت حالة الطوارئ وشُغل العالم بالحدث ..وتسمّر الخلق أمام التلفزة لمتابعة تفاصيل الخبر ..، كلّ هذا نجح الكاتب في سرده وفي استدرار اهتمام القرّاء جميعا ..وفي خاتمة القصة يباغتنا بجملة باردة قاتلة ومزلزلة لمن به وعيٌ بلعبة الإعلام وكيفية تجميع الرأي العام :
” أنا البجعة التي داستها كلّ قطارات الدنيا ، ولن ينتبه لنزيفها أحد ”
اخترت لكم لاختتام هذه الاطلالة على عالم عيسى جابلي ..قصة
“D’origine ” حداثيّ
لأنّها تتضمّن سخرية لاذعة من كلّ شيء ..، يبدأ القص من شجار الأمّ والأب ويُرسل الابن في مهمة جليلة لشراء ” حداثيّ ” من سوق العصر لحلّ الخلافات الكبيرة بين الوالدين ..، وخلاصة القصة أنّ الحداثيّ يزيد الطين بلّة بل يُفاقم المشكلة حين يتزّوج حداثية ..وتأمر الأمّ بالإجهاز عليه ..ويتدخّل الراوي فيكتفي بطرد الحداثيّ وتختم القصة باكتشاف المخزن الذي اشترى منه الابن ..بكونه مقلّد ومزوّر :
” اكتشفت الشرطة أنّ متجر الحداثيين الذي اشترى منه الحداثي من ” سوق العصر ” قد أوقف صاحبه بتهمة الاتّجار ببضائع مقلّدة وتزوير ماركات عالمية “