منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

الثقافة الاستهلاكية وباء صامت

تشكل الثقافة الاستهلاكية أحد أبرز التحولات الاجتماعية في العصر الحالي , وكل مدى تزداد إفراطًا حيث باتت تتجاوز حدود الحاجة ، لتتحول إلى أسلوب حياة قائم على الأنانية والمبالغة والتباهي في اقتناء السلع والخدمات ، وهذا التحول لم يعد مجرد سلوك اقتصادي بل أصبح ظاهرة ذات أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية ، تهدد التوازن الداخلي للمجتمع ، وتعرضه لارتفاع معدلات الأمراض المزمنة والمعدية والسمنة نتيجة إنتشار الوجبات السريعة والأغذية المصنعة ، والزيوت المهدرجة ، وأطعمة الشارع الملوثة ، والمشروبات الغازية ، والمحسنات والأصباغ والمصبرات الغير صحية ، والهرمونات والمضادات الحيوية والمواد الكيميائية الداخلة في بعض اللحوم والمواد الغذائية ، والاستهلاك غير المنضبط لمنتجات غير خاضعة للرقابة الصحية وفي معظمها مواد تسبب الأمراض المزمنة والسرطانية والمناعية والتسمم الغذائي ، وألعاب الاطفال والأقمشة والملابس المصنعة من مواد غير طبيعية وغير صحية ، والتحول لأنماط حياتية غير صحية قليلة النشاط البدني ، والتدخين بكل أنواعه ، والسهر بالمقاهي والمطاعم والأسواق المجمعة والملاهي وبعضها تعتمد على عمالة لا تخضع للشروط الصحية ، والأماكن ذاتها تخالف في معظمها الشروط الصحية والبيئية ، وإدمان الوسائل والوسائط والألعاب الإلكترونية التي تؤدي إلى الخمول والكسل وضعف المناعة والاضطرابات النفسية ، وكل هذا يؤدي إلى إرتفاع الأعباء على النظام الصحي والمؤسسات العلاجية التي ليست في وضعها الجيد وتعاني من تدني في الخدمات الصحية للأسباب المعروفة ، ويزداد التردد على العيادات والمصحات الداخلية والخارجية ، وإستهلاك الأدوية والمستلزمات الطبية والذي ينعكس على الأوضاع الاقتصادية للأفراد والأسر والمجتمع ، ويفتح الباب الواسع للأدوية المغشوشة والمزورة ، والخدمات الصحية الرديئة ، وإنتشار المراكز الصحية الوهمية التجميلية وغيرها ، وتسويق مجنون لمنتجات التجميل المزورة والغير صحية ، وهذه الأنماط الاستهلاكية المفرطة أدت إلى أبعاد إجتماعية مغايرة منها التباهي والتفاخر والأنانية ، وزيادة التفاوت الطبقي ، وإضعاف قيم التعاون والإبداع الجماعي والإنتاجية والروح الإيجابية ، مما يؤدي إلى إستنزاف كبير للموارد المالية للأسر في الكماليات والسلع الترفيهية على حساب التعليم والصحة والبيئة المعيشية الجيدة ، ويزيد في الإعتماد المفرط على الإستيراد بدلا من تشجيع الإنتاج المحلي ، ويعطل المشاريع التنموية لصالح ثقافة الشراء اللحظي ، وتُفاقم هذه السلوكيات الاستهلاكية غزو الإعلانات ووسائل الإعلام لوعي الأفراد والمجتمع عبر الترويج المستمر لرغبات جديدة مصطنعة ، تدفع الناس لمزيد من الإستهلاك الضار بالصحة والحياة ، وشيئا فشيئا تتراجع القيم الإنسانية وأهمها القناعة والإعتدال مقابل تعزيز قيم الماديات والأنانية والتعالي ، ويتسلل الإستهلاك إلى تفاصيل الحياة اليومية حتى بات معيارا للنجاح والمكانة الاجتماعية ، وأصبح ظاهرة مجتمعية تحمل سمات المرض الإجتماعي لما تسببه من أضرار جسدية ونفسية وإجتماعية وإقتصادية ، ومع غياب الرقابة الصحية والاقتصادية تجعل المجتمع أكثر عرضة لإنزلاق أعمق في هذه الدوامة ، لذا وجب التنبيه على مواجهتها والتي تتطلب رؤية شاملة تعزز قيم الإنتاج والإبداع ، وتفرض ضوابط رقابية صارمة ، وتعيد الاعتبار لثقافة الإعتدال والإستهلاك الواعي ، وأنماط الحياة الصحية ، وإدراك أن الإستهلاك بلا وعي ليس رفاهية بل عبء يسرق الصحة ويهدر القيم ، وإن الكثير من السلع قد تشبع رغبة مؤقتة لكنها تزرع داء دائم قد يستعصى علاجه .

إن المجتمع الذي يستهلك أكثر ما ينتج تتفشى فيه الأمراض وتغيب عنه الصحة والعافية .

د.علي المبروك أبوقرين

شاهد أيضاً

اليونان تسعى لوضع خارطة طريق لاتفاقية بحرية مع ليبيا قبل نهاية 2025

اليونان تسعى لوضع خارطة طريق لاتفاقية بحرية مع ليبيا قبل نهاية 2025

أعلن وزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس، الثلاثاء، أن بلاده تعمل على إعداد خارطة طريق للمناقشات …