تشكل الثقافة الاستهلاكية أحد أبرز التحولات الاجتماعية في العصر الحالي , وكل مدى تزداد إفراطًا حيث باتت تتجاوز حدود الحاجة ، لتتحول إلى أسلوب حياة قائم على الأنانية والمبالغة والتباهي في اقتناء السلع والخدمات ، وهذا التحول لم يعد مجرد سلوك اقتصادي بل أصبح ظاهرة ذات أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية ، تهدد التوازن الداخلي للمجتمع ، وتعرضه لارتفاع معدلات الأمراض المزمنة والمعدية والسمنة نتيجة إنتشار الوجبات السريعة والأغذية المصنعة ، والزيوت المهدرجة ، وأطعمة الشارع الملوثة ، والمشروبات الغازية ، والمحسنات والأصباغ والمصبرات الغير صحية ، والهرمونات والمضادات الحيوية والمواد الكيميائية الداخلة في بعض اللحوم والمواد الغذائية ، والاستهلاك غير المنضبط لمنتجات غير خاضعة للرقابة الصحية وفي معظمها مواد تسبب الأمراض المزمنة والسرطانية والمناعية والتسمم الغذائي ، وألعاب الاطفال والأقمشة والملابس المصنعة من مواد غير طبيعية وغير صحية ، والتحول لأنماط حياتية غير صحية قليلة النشاط البدني ، والتدخين بكل أنواعه ، والسهر بالمقاهي والمطاعم والأسواق المجمعة والملاهي وبعضها تعتمد على عمالة لا تخضع للشروط الصحية ، والأماكن ذاتها تخالف في معظمها الشروط الصحية والبيئية ، وإدمان الوسائل والوسائط والألعاب الإلكترونية التي تؤدي إلى الخمول والكسل وضعف المناعة والاضطرابات النفسية ، وكل هذا يؤدي إلى إرتفاع الأعباء على النظام الصحي والمؤسسات العلاجية التي ليست في وضعها الجيد وتعاني من تدني في الخدمات الصحية للأسباب المعروفة ، ويزداد التردد على العيادات والمصحات الداخلية والخارجية ، وإستهلاك الأدوية والمستلزمات الطبية والذي ينعكس على الأوضاع الاقتصادية للأفراد والأسر والمجتمع ، ويفتح الباب الواسع للأدوية المغشوشة والمزورة ، والخدمات الصحية الرديئة ، وإنتشار المراكز الصحية الوهمية التجميلية وغيرها ، وتسويق مجنون لمنتجات التجميل المزورة والغير صحية ، وهذه الأنماط الاستهلاكية المفرطة أدت إلى أبعاد إجتماعية مغايرة منها التباهي والتفاخر والأنانية ، وزيادة التفاوت الطبقي ، وإضعاف قيم التعاون والإبداع الجماعي والإنتاجية والروح الإيجابية ، مما يؤدي إلى إستنزاف كبير للموارد المالية للأسر في الكماليات والسلع الترفيهية على حساب التعليم والصحة والبيئة المعيشية الجيدة ، ويزيد في الإعتماد المفرط على الإستيراد بدلا من تشجيع الإنتاج المحلي ، ويعطل المشاريع التنموية لصالح ثقافة الشراء اللحظي ، وتُفاقم هذه السلوكيات الاستهلاكية غزو الإعلانات ووسائل الإعلام لوعي الأفراد والمجتمع عبر الترويج المستمر لرغبات جديدة مصطنعة ، تدفع الناس لمزيد من الإستهلاك الضار بالصحة والحياة ، وشيئا فشيئا تتراجع القيم الإنسانية وأهمها القناعة والإعتدال مقابل تعزيز قيم الماديات والأنانية والتعالي ، ويتسلل الإستهلاك إلى تفاصيل الحياة اليومية حتى بات معيارا للنجاح والمكانة الاجتماعية ، وأصبح ظاهرة مجتمعية تحمل سمات المرض الإجتماعي لما تسببه من أضرار جسدية ونفسية وإجتماعية وإقتصادية ، ومع غياب الرقابة الصحية والاقتصادية تجعل المجتمع أكثر عرضة لإنزلاق أعمق في هذه الدوامة ، لذا وجب التنبيه على مواجهتها والتي تتطلب رؤية شاملة تعزز قيم الإنتاج والإبداع ، وتفرض ضوابط رقابية صارمة ، وتعيد الاعتبار لثقافة الإعتدال والإستهلاك الواعي ، وأنماط الحياة الصحية ، وإدراك أن الإستهلاك بلا وعي ليس رفاهية بل عبء يسرق الصحة ويهدر القيم ، وإن الكثير من السلع قد تشبع رغبة مؤقتة لكنها تزرع داء دائم قد يستعصى علاجه .
إن المجتمع الذي يستهلك أكثر ما ينتج تتفشى فيه الأمراض وتغيب عنه الصحة والعافية .