خلود الفلاح
في ليل 10ـ 11 ـ 2023، بدأت العمارة التي اسكن فيها مع أولادي في الانهيار بفعل عاصفة دانيال، من هذه النقطة بدأت “هناء” في الحديث عن تلك الليلة التي وصفتها بالمؤلمة جدا، وتستطرد: أنا أسكن في الدور الثاني، وعندما اقتربت المياه من الوصول إلينا، خرجت وبقية الجيران في اتجاه السطح، ومنه إلى سطح العمارة المجاورة وتمكنا في الخروج بسلام. ومن ذلك اليوم وأنا أعيش مشردة مع أولادي الثلاثة.
وتتحدث “حنان”، في تلك الليلة كنت في بيت أهلي أنا وأبني الوحيد، سقطت العمارة ـ صورها منتشرة في الفيس بوك ـ مقابلة للبحر. كان زوجي هناك في الشقة، بعد ثلاثة أيام خرجت جثته من البحر، وانتهى كل شيء. بلا بيت أنا وذاك الصغير الذي يبحث عن والده باستمرار. فقط راتبي الشهري، وما يجود به الأقارب.
“مفيدة”، تبكي بحرارة عن ساعات الانتظار للانتقال من بيت إلى آخر، بعد غرق الزوج واثنين من الأبناء في مياه السيل، تقول: أعيش مع بناتي الثلاثة بلا سند. بعد تلك الفاجعة لم تستطيع البنات اكمال التعليم بين الجامعة والمعهد. ” أنا لا أعمل، وما يقدمه أصحاب الخير بالكاد يكفي إيجار البيت”.
تقول” أروى”، عندما بدأت المياه بالدخول إلى المنزل، لم يكن أمامي إلا إجبار ابني على الخروج سريعا، والذاهب إلى بيت أهلي، وبقيت أنا مع البنات الصغيرات أحاول إخراجهن، ولم أستطيع، أنا كتب لي النجاة وفقدت ابنتاي.
وتمضي “مريم”، في حياتها من أجل تربية أبناء أخيها الذي جرفه السيل مع وزوجته، إضافة إلى بنات أختها المتوفاة منذ سنوات، بعد أن أخذ السيل والدهم.
استنزاف نفسي
وفقا لتقارير عدة، النساء اللواتي ينجحن في النجاة من الكوارث الطبيعية يواجهن صعوبة أكبر في التعافي. كما أن اللاجئات المناخيات أكثر عرضة للانتهاك الجنسي ويواجهن قدراً أعظم من التمييز في الحصول على الإمدادات الطارئة والمساعدات الإنسانية. وهذا يخلق “حلقة من الضعف” في مواجهة الكوارث المستقبلية.
وتشكل القضايا الصحية المرتبطة بالمناخ خطراً أكبر على النساء. إذ يؤدي تلوث الهواء إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي مثل الربو، فضلاً عن مشاكل القلب والأوعية الدموية. وتؤدي الفيضانات والرياح الموسمية والأعاصير إلى ارتفاع معدلات الأمراض المنقولة بالمياه، والتي غالباً ما تكون النساء أكثر عرضة لها. كما يستخدمن المزيد من المياه في روتينهن اليومي، مما يجعلهن أكثر عرضة للإصابة بالطفيليات، ويستنشقن المزيد من السموم عند الطهي على مواقد غير آمنة.
وفي ليبيا، تتحمل النخب السياسية والتشكيلات المسلحة الجزء الأكبر من مسؤولية فشل مساعي التكيف مع تداعيات أزمة المناخ، إذ تأتي في المرتبة ال 126من أصل 182 دولة في مؤشر البلدان الأكثر هشاشة، وهو ما ينعكس في ندرة المياه وموجات الحرارة المتتالية والجفاف المستمر.
وترى طبيبة الصحة النفسية سندس الساعدي، أن حجم الأذى النفسي الذي تعرضت له المرأة الليبية بسبب الأزمات البيئية المعقدة كالفيضان الذي ضرب مدينة درنة عام 2023، أو حتى السيول التي حدثت مؤخرًا في مدينة ترهونة، كلها تُشكل سببًا كبيرًا في تدهور الحالة النفسية للنساء على وجه الخصوص، كحالات القلق والاكتئاب ومتلازمة مع بعد الصدمة. وغيرها من المشكلات والاضطرابات النفسية الملازمة للأزمات
والكوارث البيئية.
وبالحديث عن الكوارث والأزمات من المهم أن نتحدث ونُسلط الضوء هنا، على تجارب النساء النازحات خلال هذه الأزمات وسلامتهن من التعرض لبعض المضايقات أو التحرش، ناهيك عن أدوارهن المحورية في خلق بيئة تساعد باقي أفراد الأسرة خلال هذه الظروف.
وتتابع: من الممكن أيضا، أن تكون معاناة المرأة الليبية من التغير المناخي أكبر من غيرها من النساء في مناطق مختلفة من العالم -ليس من باب القياس، إنما من باب المشاهدة والمعاينة، للواقع الحالي بليبيا-، حيث تساهم الأوضاع المعيشية والاضطرابات التي تشهدها ليبيا في خلق حالة من الإنهاك والاستنزاف النفسي للنساء، كونهن يحملن عبء مسؤولية أطفالهن أو حتى عائلاتهن بحسب الدور الاجتماعي.
كما تظل هناك أزمة وفراغ فيما يخص التوعية بالصحة النفسية في المجتمع، وضعف الدعم النفسي الاجتماعي للنساء؛ مما يجعل هذا الأمر ليس بالهيّن؛ على شريحة كبيرة من النساء الليبيات.
الأطر التشريعية
ما هي العدالة المناخية؟ هي معالجة العبء غير المتناسب لتأثيرات تغير المناخ على المجتمعات الفقيرة والمهمشة والسعي إلى تعزيز توزيع أكثر عدالة لأعباء هذه الآثار على المستويات المحلية والوطنية والعالمية من خلال المبادرات الاستباقية التفاعلية التي تعتمد على نظريات حقوق الإنسان الدولية والعدالة البيئية المحلية.
وتقول الباحثة الجيولوجية ياسمين الأحمر وهي أيضا ـ ناشطة بيئية بمنظمة ليكاو ـ تتضمن الأطر التشريعية في ليبيا عدة قوانين ومبادرات تهدف إلى حماية البيئة والتصدي للتغير المناخي. وتعد القوانين الليبية من اقوى القوانين، لكنها بحاجة للتطوير والتفعيل منها: القانون رقم 15 لسنة 2003 في شأن حماية وتحسين البيئة. يُعد هذا القانون الأساس لتنظيم حماية البيئة. ويتضمن بنود تتعلق بالحفاظ على الموارد الطبيعية، والحد من التلوث، والتشجيع على التنمية المستدامة. وهي: قرار رقم 574 لسنة 2023 م بإنشاء صندوق حماية البيئة، وقرار رقم 273 لسنة 2021م بشأن إنشاء محميات طبيعية أراضي رطبة، وقرار رقم 272 لسنة 2021م بشأن إنشاء محميات طبيعية بحرية وساحلية، قرار رقم 224 لسنة 2021م بشأن إنشاء مراقبات بيئية.
وبالنسبة للقوانين المحلية هناك أيضًا قوانين على المستوى المحلي تتعلق بإدارة الموارد المائية، الغابات، والتنوع البيولوجي، والتي تعكس الالتزامات الدولية لليبيا وهي:
القانون رقم 8 لسنة 1973 إفرنجي في شأن منع تلوث مياه البحر بالزيت، والقانون رقم 2 لسنة 1982 إفرنجي بشأن تنظيم استعمال الإشعاعات المؤينة والوقاية من أخطارها، والقانون رقم 3 لسنة 1982 إفرنجي بشأن تنظيم استغلال مصادر المياه، والقانون رقم 5 لسنة 1982 إفرنجي بشأن حماية المراعي والغابات، ولقانون رقم 7 لسنة 1982 إفرنجي بشأن حماية البيئة، والقانون رقم 13 لسنة 1984 إفرنجي بشأن الأحكام الخاصة بالنظافة العامة، القانون رقم 17 لسنة 1985 إفرنجي بشأن تنظيم الرعي، القانون رقم 14 لسنة 1989 إفرنجي بشأن استغلال الثروة البحرية، القانون رقم 15 لسنة 1989 إفرنجي أن حماية الحيوانات والأشجار.
بالإضافة إلى الالتزامات الدولية، فقد انضمت ليبيا إلى عدة اتفاقيات دولية مثل اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، وهي ملزمة بتطوير استراتيجيات وطنية للتقليل من انبعاثات الغازات الدفيئة. كذلك تم تطوير عدة استراتيجيات وطنية، مثل الاستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي، التي تهدف إلى الحفاظ على النظام البيئي وتعزيز القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية.
وتضيف ياسمين الأحمر، تأثرت النساء في ليبيا بشكل خاص بالتغير المناخي بسبب عدة عوامل، منها أن النساء تحمل تقليديًا مسؤوليات أكبر في تدبير شؤون الأسرة، مما يزيد من أعبائهن في أوقات الأزمات البيئية، وفيما يخص الصحة تؤدي التغيرات في المناخ إلى تفشي الأمراض، أدت الفيضانات إلى تدمير المنازل والبنية التحتية، وهذا يؤثر على الصحة النفسية بالطبع خصوصا لأولئك الذين فقدوا منازلهم واهاليهم مما يزيد من مستويات التوتر والقلق، الامر الذي من الممكن أن يؤدي إلى زيادة العنف الأسري.
المناخ والعنف
وتتقاطع أزمة المناخ مع العنف القائم على النوع الاجتماعي. وتطهر الدراسات وجود علاقة مباشرة بين المصاعب المتعلقة بالمناخ وارتفاع معدلات العنف المنزلي والاعتداء الجنسي وزواج زواج القاصرات. فمع معاناة المجتمعات من فقدان سبل العيش والنزوح والاضطرابات الاجتماعية، تصبح النساء والفتيات أكثر عرضة للاستغلال والعنف.
فتقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة تشير إلى أن 80 في المائة من المشردين بسبب تغير المناخ هم من النساء.
وتبين سندس الساعدي، أن تجارب النساء اللاتي تعرضّن لكوارث الفيضانات والنزوح قد تعاني من تبعات هذا النزوح بشكل خاص كالتعرض للتحرش، أو حتى للاعتداء أو للعنف بشتى أنواعه، لما يسببه الضغط النفسي على العائلة ككل في أماكن النزوح، وتكون ضحيته النساء، بالطبع هذا بالنسبة للعائلات الأقل وعيًا! – على سبيل المثال- أيضا، في هذه الحالات قد يرافقه خسارة بعض الممتلكات أو حتى كامل الممتلكات، مما جعل الأوضاع الاقتصادية للأسر في وضع لا يعد جيدًا أو لربما لا يعد حتى صحيًا على الصعيدين العضوي والنفسي.
في حالة عدم معالجة هذه الأوضاع التي ذكرتها آنفًا قد يؤل هذا إلى ضعف الوضع المعيشي لفترات طويلة، كما يدفع بعض العائلات لتزويج بناتهن في وقت مُبكر كنتيجة لهذه الأوضاع.
وتتحدث سندس الساعدي، عن ضرورة تعزيز الوعي حول الصحة النفسية خاصة في وقت الأزمات والكوارث فهذا من شأنه التقليل من الأضرار المحتملة، كما يساعد الدفع بالمرأة نحو التمكين النفسي والاجتماعي فيما يخص التغيّر المناخي. ويجعل النساء أكثر مرونة في حال حدوث مثل هذه الأزمات. كما يعتبر تفعيل دور المؤسسات التي تعني بالصحة النفسية والدعم الاجتماعي، ووضع استراتيجيات واضحة للصحة النفسية ودمجها مع إدارة الكوارث الناجمة عن التغيّر المناخي حجر أساس للتقليل من مثل هذه الأضرار التي تلحق بالنساء.