التعليم الطبي والخدمات الصحية (2)
الدكتور علي المبروك أبوقرين
بالأمس القريب جداً والمعاصر في ستينات القرن العشرين عدد الأطباء الليبين بسيط يكاد يعد على الأصابع ، وكذلك المستشفيات والمرافق الصحية محدود جدا في المدن الكبري ، ومنعدم في معظم المدن والقرى والارياف والدواخل ،
وأُفتتحت أول كلية طب في بنغازي سنة 1970 ، وبعدها بسبعة أعوام افتتحت كلية طب طرابلس ، ومع السنين توالى أفتتاح كليات الطب والصيدلة والاسنان والتقنية والتمريض في معظم المدن الليبية على قواعد قانونية ولوائح إجرائية تؤسس لعملية التنمية البشرية ، على أسس علمية صحيحة مسترشدة بالتشريعات والقوانين المحلية الصارمة والثوابت العلمية الحديثة المؤيدة بالادلة العلمية ، وتعاونت مع كليات الطب والجامعات الكبرى العالمية ، واستعانت بالكثير من أعلام الطب للتدريس والتدريب والامتحانات ، وابتعث الالاف من الطلبة للجامعات العالمية المعروفة لدراسة الطب والتخصصات المختلفة ، حتى صارت البلاد تزخر بالأطباء والصيادلة وأطباء الاسنان ، وفي وقت قصير في عمر الامم تحققت المؤشرات العالمية في التعليم والصحة في عدد الاطباء والسعة السريرية والمستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات ..
وللأسف سرعان ما بداء المنحنى التنموي في الإنحدار ، وتدهورت أحوال الإدارة ، وتراجعت العملية التعليمية ، بعدم الاهتمام بتطوير البنية التحتية في المباني والإمكانيات التعليمية الحديثة ، والمناهج والأساليب التعليمية ، والتقصير في رفع الكفاءة لقطاع عريض من اعضاء هيئة التدريس العنصر الأساسي في العملية التعليمية ، وعانت الكليات الطبية بكل تخصصاتها من الإهمال وعدم التطوير ، وفاق عدد الدارسين كل إمكانيات الجامعات والكليات في سعة الاستيعاب وأعداد هيئات التدريس الذين تنطبق عليهم الشروط ، وعدم مواكبة التطورات التقنية والتكنولوجية والأساليب التعليمية الحديثة ، وتراجع البحوث الطبية والعلمية ، والى هذا اليوم لايوجد اي روابط إدارية او فنية او تبعية بين كليات الطبيات والمستشفيات ، ولا يوجد تصنيف فعلي بمعايير واضحة ومطبقة على الواقع للمستشفيات التعليمية ، ولا لها هيكلية إدارية تتماشى مع الوظيفة التعليمية ، وللاسف لم تباشر معظم الكليات في برامج الدراسات العليا محليا ، مما ألجأ البعض للدراسة في دول العالم المختلفة للحصول على الشهادات ، وهذا كله انعكس على جودة ومخرجات التعليم الطبي ، والذي لا يرقى لمستوى قدرات ورغبات الأجيال الجديدة المنفتحة على ألعالم ، ولا لاحتياجات المجتمع المتعددة من الخدمات الصحية المرجوة ..وزادت الأمور سوء مع الغاء ادارة مرافق المستشفيات التعليمية
وتضرر القطاع الصحي ، لأن القوى العاملة الصحية هي أهم عناصر وأعمدة النظام الصحي ، والذي لازال في احتياج كبير للأطباء في جميع التخصصات ، وخصوصًا بعد مغادرة معظم العناصر الأجنبية ، ونظرا للتدهور في المنظومة الاستشفائية في كل مستويات الخدمات الصحية انعكس على التدريب السريري للأطباء الشبان ، وزاد تأزم في العشرية الأخيرة لتوقف العمل بمعظم المستشفيات الحكومية التعليمية .
وفي الوقت الذي لم يطرأ على الكليات أي تطور في البنى التحتية ، ولا في الإمكانات التقنية والتكنولوجية واللوجستية ، ولا في السعة الاستيعابية وفق طرق وأساليب دراسة العلوم الأساسية الحديثة ، التي تعتمد على المجموعات الصغيرة ، والتعليم التفاعلي ، والمشاريع البحثية ، وكذلك التدريب والتعليم السريري المفقود شكلا ومضمونا ، وأُجبرت الأعداد المتزايدة من الخريجين على البحث عن طرق مختلفة من أجل الحصول على شهادات ما انزل الله بها من سلطان ، من أجسام محلية وعربية لاتملك اي شئ من مفاهيم التعليم والتدريب وليس لها مراكز تدريب ، ولم تؤهل المستشفيات لذلك ، ولم تطور العملية التعليمية ، فقط تستنزف أموال الاطباء الشبان لتمتحنهم في قاعات الفنادق ، وبالضرورة هذا يشكل ضررًا كبير جدا ، ويتضاعف حجم الضرر في غياب المتابعة والإشراف والتقييم الدقيق والاعتماد الرسمي ..(العنصر الغير مؤهل وغير متدرب جيدا خطر على صحة وحياة الناس ، وبالتأكيد لا نرغب أن يكون من اعلى اسباب الوفيات هي الأخطاء الطبية اسوة ببعض الدول التي يتخذها البعض قدوة ) ..
وحيث أن معدلات سرعة الحياة ورغبة وقدرة الأجيال الجديدة أسرع من إمكانيات الجهات المسؤولة عن ادارة وتشغيل قطاعات التعليم والصحة ، وهذا يتطلب سرعة إتخاذ الإجراءات اللازمة للإصلاح الجذري لقطاعات التعليم الطبي ، وتقييم الوضع الحالي ، ووضع الاستراتيجيات والخطط والبرامج العملية لمعالجة جميع العيوب بشكل علمي دقيق ، باستخدام آليات رفع الكفاءة ، وزيادة القدرات ، وتطوير البنى التحتية ، وتحديث المعايير وتطويرها ، وتقوية العمل المؤسسي بإعتماد هياكل تنظيمية متكاملة مترابطة بروئ ورسالات وأهداف تنموية وتشغيلية واضحة وجلية تؤسس على نظام للتعليم الطبي في العلوم الأساسية والسريرية وفق احدث المعايير العالمية وبما يتماشى مع متطلبات العصر والمستقبل المنشود ، وأن يعتمد برامج تقييم وحوكمة وقياس لمعدلات الاداء لكل العملية التعليمية ، وأن تؤسس منظومة متكاملة من مواصفات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الى استلام نتائج الاختبارات النهائية المرتبطة بالتعيين المرتبط بالانخراط في برامج التخصص واستكمال العملية التعليمية ، واي تأخير هو خسارة فادحة لأهم أستثمار بشري في امس الحاجة اليه ، مع ضرورة إعادة النظر في كل ماهو قائم من مباني ومدرجات ومعامل ومناهج ، واعضاء هيئة التدريس ، وأساليب التدريس للعلوم الأساسية والسريرية ، ودور الجامعات ووزارة الصحة والجهات الاخرى ذات العلاقة.
ليبيا في حاجة لعشرات الآلاف من الأطباء المهرة في جميع التخصصات بدء من الإدارة والتخطيط الصحي والطب الوقائي وطب المجتمع وطب الاسرة ، وطب الرعاية الأولية والمنزلية والمهنية ، وطب الطوارئ الصحيح الاقرب للحاجة قبل النداء ، واختصاصيين مهرة في كل التخصصات الإكلينيكية والمنخرطين بمهارة مع التطورات التقنية والتكنولوجية الحديثة ، ومجازين جميعهم بشهادات عليا معتمدة ، ولهم خبرات عالية في تخصصاتهم ، بكل أدوات العصر المستخدمة في أفضل الدول المتقدمة علميا وطبيًا ، وبنية تحتية صحية حديثة متكاملة تغطي النظام الصحي من التعزيز للتأهيل وبيئه عمل مريحة تلبي رغبات واحتياجات مقدمي الخدمات والمرضى وذويهم .
الهدف الشامل للتعليم الطبي هو نقل أعلى المبادئ والمعرفة والمهارة للطبيب الجديد الناشئ لتلبية إحتياجات المجتمع بأطباء جدد لا يتناسبون مع نظام رعاية صحية مختل وظيفيًا فحسب بل يعملون على تغييره .
الاحتراف وتكوين الهوية المهنية عنصران رئيسيان للتعليم الطبي ..
وكل هذا وذاك يحتاج لإرادة وادارة ومعرفة وعلم وخطط وإستراتيجيات تنموية طويلة الامد .
التعليم والصحة رسالة إنسانية عظيمة المكسب الحقيقي منهما هو بناء حضارات الشعوب وتقدمها ..