المقدمة
التبرع بالأعضاء هو ذروة العطاء الإنساني، ومظهر من مظاهر الوعي الأخلاقي والاجتماعي الذي يختبر نضج الشعوب ورُقيّها. فحين يقرر إنسان أن يمنح جزءًا من جسده لإنقاذ حياة آخر، فإنه يتجاوز حدود الغريزة ليعانق المعنى الأسمى للوجود الإنساني: المشاركة في البقاء.
لقد أتاح التقدم الطبي في العقود الأخيرة إمكان نقل الأعضاء بين البشر، فحوّل الأمل إلى واقع ملموس، وجعل من التبرع بالأعضاء وسيلة فعالة لإنقاذ مئات الآلاف سنويًا. ومع ذلك، ما تزال الفكرة تواجه حواجز دينية واجتماعية ونفسية، وتحتاج إلى حوار عميق يعيد تعريفها في ضوء القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية.
أولاً: البعد الديني – تأصيل الرحمة والإحسان
يُعدّ الإسلام دين الرحمة والتكافل، وكل ما يؤدي إلى إنقاذ النفس البشرية يُعدّ من القُربات العظيمة. يقول تعالى في كتابه العزيز:
﴿ وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ ﴾ [المائدة 32] وهذه الآية الكريمة تختصر فلسفة التبرع بالأعضاء في جملة واحدة، إذ تجعل من إنقاذ إنسان واحد عملاً يعادل إحياء البشرية جمعاء من آدم وحتى يوم الحشر، وينظر الإسلام إلى التبرع بالأعضاء على أنه عمل من أعمال البر التي تُسهم في إنقاذ النفس البشرية، بل وتُعدّ من القربات التي يُثاب عليها المسلم.
وقد أجمع العلماء في دار الافتاء والهيئة العامة للأوقاف وكذالك مجمع الفه الاسلامي في الرياض وعمان وكذا اللجنة العلمية للافتاء بمدينة مكة المكرمة على جواز التبرع بالأعضاء في حال تحقق شروط معينة: أن يكون التبرع طوعيًا خالصًا، وأن يثبت عدم وجود ضرر جسيم على المتبرع، وأن يكون الهدف الإنساني هو إنقاذ حياة الآخر لا تحقيق مكسب مادي. كما يجب أن يتم في إطار يحفظ كرامة الإنسان حيًّا وميتًا.
وكما يحث الإسلام على الهبة والعطاء والتبرع ويعتبره صدقة الجارية، فاليهودية والمسيحية كذلك تؤكدان أن التبرع بالأعضاء شكل من أشكال الإحسان، ومصداق عملي للمحبة التي أوصت بها جميع الشرائع.
في المقابل، فإن الامتناع عن التبرع بدافع الخوف أو الجهل أو سوء الفهم لا يُدين صاحبه، لكنه يُظهر الحاجة الماسة للتثقيف الديني الممنهج، الذي يوضح للناس أن حفظ النفس مقصد شرعي، وأن الجسد في الإسلام ليس مِلكًا للفرد المطلق، بل أمانة يمكن أن تُسهم في استمرار حياة آخرين.
ثانيًا: الإطار القانوني – ضمان الحقوق ومنع الاستغلال
لأن التبرع بالأعضاء يتصل بأقدس ما يملك الإنسان، وهو جسده، فقد حرصت القوانين الحديثة على وضع أطر دقيقة تضمن العدالة والشفافية.
في ليبيا، على سبيل المثال، أُنشئت الهيئة العامة لزراعة الأعضاء والأنسجة والخلايا لتكون الجهة الرسمية المشرفة على عمليات الزراعة، وتنظيم التبرع، ومكافحة الاتجار. وينص القانون على أن التبرع لا يجوز إلا بموافقة المتبرع الصريحة أو موافقة ذويه في حالة الوفاة، وأن الأعضاء لا تُمنح إلا لأغراض علاجية مشروعة.
وتؤكد التشريعات المعاصرة على ضرورة التوازن بين حرية الفرد والمصلحة العامة، بحيث لا يُستغل الفقراء أو الضعفاء، ولا تُتخذ الأعضاء سلعة للبيع والشراء. كما أن من مسؤولية الدولة إنشاء سجل وطني للمتبرعين والمتلقين يضمن العدالة في توزيع الأعضاء بحسب الحاجة الطبية، لا المركز الاجتماعي أو القدرة المالية.
إن وجود قوانين قوية لا يُقيد العمل الإنساني، بل يحميه من الانحراف، ويعزز الثقة العامة في المنظومة الصحية، ويشجع المزيد من الناس على اتخاذ قرار التبرع وهم مطمئنون إلى أن أعضائهم ستذهب لمن يستحقها.
ثالثًا: البعد الاجتماعي – ترسيخ قيم التكافل والتعاون
المجتمع الذي يتبنى التبرع بالأعضاء هو مجتمع ناضج يؤمن بأن حياة الإنسان مسؤولية جماعية. فحين يهب أحدهم كليته أو جزءًا من كبده لمريض غسيل كلوي أو لفتاة يائسة تعاني التليف الكبدي، فإنه لا ينقذ فردًا فحسب، بل ينقذ أسرة كاملة من المعاناة، ويعيد الأمل إلى محيط اجتماعي كامل.
إن ثقافة التبرع بالأعضاء هي مقياس للتكافل الاجتماعي الحقيقي. فهي تجعل كل فرد يشعر بأنه جزء من جسد واحد، كما وصف النبي ﷺ:
“مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد…“
لكن الواقع العربي ما يزال مترددًا في تبني هذه الثقافة بسبب الموروثات والمفاهيم الخاطئة، التي تربط التبرع بانتهاك حرمة الجسد أو بخطر أخلاقي محتمل. وهذا ما يتطلب برامج توعوية مجتمعية تشارك فيها وزارة الصحة والثقافة والإعلام والتعليم والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام العامة والخاصة، لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وربط التبرع بمفاهيم الأخوة والإحسان والصدقة الجارية.
رابعًا: الأبعاد النفسية والإنسانية – العطاء الذي يحرّر النفس
التبرع بالأعضاء ليس تضحية فحسب، بل هو تحرّر من الأنانية، وتجسيد لقدرة الإنسان على تجاوز ذاته.
يشعر المتبرع عادةً برضى داخلي عميق، لأنه يصبح سببًا في وهب حياة جديدة. ووفق دراسات نفسية عديدة، فإن معظم المتبرعين الأحياء يعبرون عن سعادتهم بقرارهم حتى بعد مرور سنوات، رغم الألم أو الندبة الجراحية، لأن الفائدة المعنوية تفوق أي معاناة جسدية.
أما المتلقي، فإن التجربة تمثل له ميلادًا ثانيًا وفرصة اخرى للحياة. يعيش إحساسًا بالامتنان الدائم تجاه المتبرع المجهول أو القريب، ويصبح أكثر التزامًا بالقيم الإنسانية. هذا الأثر يمتد إلى أسرته التي ترى في العملية برهانًا على أن الخير لا يزال ممكنًا.
إن هذا التفاعل العاطفي المتبادل بين المتبرع والمتلقي وأسرهما يخلق نسيجًا من الإنسانية الخالصة، لا يمكن لأي نظام طبي أن يصنعه وحده.
خامسًا: التحديات التي تواجه التبرع بالأعضاء
رغم وضوح فوائد التبرع بالأعضاء، فإن هناك عقبات حقيقية تحد من انتشاره في مجتمعنا وغيره من المجتمعات، أهمها:
- ضعف الوعي الديني والعلمي: كثيرون يجهلون أن التبرع بالأعضاء جائز شرعًا، وآمن طبيًا.
- الخوف من سوء استخدام الأعضاء أو الاتجار بها، وهو ما يستدعي شفافية أكبر من المؤسسات الصحية.
- غياب البرامج التربوية والإعلامية المنظمة التي تشرح الفكرة بلغة الناس.
- عدم ثقة بعض الأسر في مفهوم الموت، ما يجعلهم يرفضون التبرع رغم إمكانية إنقاذ أرواح عدة.
لمعالجة هذه التحديات، لا بد من خطاب وطني شامل يجمع الأطباء ورجال الدين والإعلاميين والتربويين، لتصحيح المفاهيم، وبيان أن التبرع بالأعضاء ليس خرقًا للكرامة، بل امتدادًا لها.
سادسًا: التجارب العالمية والاقليمية – دروس للواقع الليبي والاقليمي
التجربة الإسبانية تُعدّ أنجح نموذج عالمي في إدارة برامج التبرع بالأعضاء. فقد وضعت إسبانيا نظامًا متكاملاً يعتمد على وجود منسقين طبيين في كل مستشفى، وتواصل إنساني فعّال مع الأسر، وشفافية مطلقة في إدارة البيانات، مما جعلها تتصدر العالم في معدلات التبرع من المتوفين.
وفي الدول العربية، شهدت السعودية والأردن والكويت وقطر تطورًا كبيرًا في برامج الزراعة، بفضل الفتاوى الشرعية الداعمة والتشريعات المتقدمة. أما في ليبيا، فالمسار ما زال في بداياته الواعدة، وتحتاج المبادرات الوطنية مثل “هبة الحياة” إلى مزيد من الدعم التشريعي والمؤسسي لتتحول إلى ثقافة عامة دائمة.
سابعًا: الجدوى الاقتصادية – الاستثمار في الحياة
كثيرون ينظرون إلى زراعة الأعضاء على أنها مكلفة، لكنها في الحقيقة استثمار طويل المدى.
فمريض الفشل الكلوي الذي يحتاج إلى ثلاث جلسات غسيل أسبوعيًا يُكلف الدولة أكثر من عملية زراعة كلية ناجحة. وبعد الزراعة، يعود المريض إلى العمل والإنتاج ويخف العبء عن النظام الصحي.
كذلك فإن نجاح برامج التبرع يقلل الحاجة لاستيراد الأجهزة والأدوية باهظة الثمن، ويزيد من الاكتفاء الذاتي في الخدمات الصحية.
الأثر الاقتصادي لا يقتصر على المال، بل يمتد إلى رأس المال البشري. فكل مريض يُعاد إلى الحياة هو طاقة إنتاجية تُستعاد للمجتمع، وكل عضو يُزرع هو فرصة جديدة للتنمية.
ثامنًا: الإعلام والتعليم – صناعة وعي جديد
الإعلام هو بوابة العقول والقلوب، وإذا لم يتبنّ قضية التبرع بالأعضاء بجدية وإنسانية، فستبقى الفكرة حبيسة المراكز الطبية.
ينبغي أن تُنتج برامج وثائقية وقصص واقعية عن المتبرعين والمتلقين، تُبرز الجانب الإنساني والعلمي بعيدًا عن الإثارة.
كما يجب أن يُدمج موضوع التبرع بالأعضاء في المناهج الدراسية والجامعية، ليعرف الطلاب منذ الصغر أن أجسادهم يمكن أن تكون جسور حياة لغيرهم.
تاسعًا: نحو ميثاق وطني للتبرع بالأعضاء
تحتاج كل دولة إلى ميثاق وطني يُنظم هذه العملية إنسانيًا وقانونيًا، ويحدد الأدوار بوضوح بين الحكومة والمؤسسات الطبية والدينية والإعلامية.
يتضمن هذا الميثاق:
- تعريفًا موحدًا للموت ولجان متخصصة ومنفصلة لتحديد لإقرار الموت واستئصال الاعضاء وزرعها،
- إجراءات موثقة للموافقة والتبرع وتوزيع عادل وشفاف للأعضاء،
- حوافز معنوية وأخلاقية للمتبرعين وليست مادية،
- آليات شفافة للإشراف والرقابة والحوكمة ومنع تضارب المصالح،
- برامج متابعة طبية ونفسية للزارعين وتوفير احتياجاتهم.
عندما تتبنى الدولة هذا الميثاق وتطبقه بشفافية، فإن الثقة المجتمعية ستزداد، وسيتحول التبرع بالأعضاء من استثناء إلى ثقافة وطنية راسخة.
عاشرًا: الخاتمة – الإنسان حين يتجاوز ذاته
التبرع بالأعضاء ليس عملاً جراحيًا فحسب، بل هو قصة إنسانية تتجاوز الجسد لتصل إلى الروح.
إنه فعل حضاري يجسد الإيمان بأن للحياة قيمة تتعدى حدود الفرد. فالموت هنا لا يكون نهاية، بل بداية حياة جديدة لإنسان آخر ” الموتى يحيون الاحياء”.
حين يوقّع أحدهم بطاقة تبرع أو يعلن رغبته في وهب أعضائه بعد الوفاة، فإنه يرسل رسالة إلى الإنسانية جمعاء تقول:
“أنا جزء منكم… وسأظل أهب الحياة حتى بعد رحيلي.”
إن نشر ثقافة التبرع بالأعضاء هو مشروع حضاري يحتاج إلى تكامل الجهود بين الدولة والمجتمع والضمير الفردي.
فكما يُقاس تطور الأمم بمستوى تعليمها وعدالتها، يُقاس أيضًا بمدى إيمانها بقيمة الحياة.
فلنكن جميعًا سفراء لهذه الفكرة النبيلة، ولنجعل من أجسادنا رسلاً للرحمة والعطاء،
ولنردد معًا:
أنا متبرع بالأعضاء… لأن الحياة تستحق أن تستمر.