ترجمة عبدالسلام الغرياني
ما الذي يدفع الملايين لاتباع شخصيات قد تبدو للوهلة الأولى غير جذابة أو حتى مثيرة للسخرية؟ هذا اللغز تكشفه المؤرخة مولي وورثين في كتابها الجديد “المفتونون: كيف شكلت الكاريزما التاريخ الأمريكي من المتطهرين المسيحيين الإنجيليين إلى دونالد ترامب”، عبر رحلة تمتد لأربعة قرون، تبحث خلالها في “الكشف عن رواية خفية” تمنح أتباعها إحساساً بالانتماء إلى قصة كونية كبرى تتجاوز فردانيتهم.
تبدأ الحكاية من المفهوم اللاهوتي الأصلي للكاريزما المستمد من العهد الجديد، حيث استخدم الرسول بولس مصطلح “charismata” (المواهب الروحية) لوصف هبات إلهية كالشفاء والتكلم بألسنة. كانت الكاريزما هنا قوة إلهية تنزل على البشر العاديين، لا سحراً شخصياً متأصلاً فيهم. لكن مع تطور الثقافة الأمريكية، انفصل المفهوم عن جذوره الدينية المباشرة ليصبح “مغناطيسية بشرية” غامضة، كما عرّفها عالم الاجتماع ماكس فيبر كـ “صفة استثنائية في الفرد تجعله مفصولاً عن البشر العاديين، وقادراً على قيادة أتباع نحو مستقبل جذري جديد”. ومع ذلك، تؤكد وورثين أن الجوهر الروحي لم يختفِ، بل تحول إلى قنوات سياسية وثقافية مع فقدان المؤسسات الدينية التقليدية لمصداقيتها.
يتجلى هذا التحول في تطور خمسة أنماط للكاريزما الأمريكية عبر التاريخ. بدايةً مع الأنبياء في القرنين 17 و18، مثل آن هاتشينسون التي تحدت السلطة الدينية لـ ( المتطهرين المسيحيين الإنجيليين) في بوسطن، وماريا وودوورث-إيتر، تلك “المبشرة الأكثر إثارة للجدل” في مطلع القرن العشرين، التي رغم فقدانها خمسة أطفال وفقرها المدقع، استقطبت 20 ألفاً في تجمعاتها بقوة وصفها الصحفيون بأنها “غير قابلة للتفسير”، حيث كان المصلون يسقطون “كالموتى” تحت تأثير خطاباتها.
ثم ظهر نمط الغزاة في القرن 19، متجسداً في شخصيات كـ أندرو جاكسون الذي حوّل كراهية النخبة إليه إلى مصدر قوة، فتعزز صيته كـ”بطل الشعب” كلما هاجمه “المحترمون”. بعده برز المحرضون في أوائل القرن 20، مثل ماركوس غارفي و ويليام سيمون (قائد نهضة شارع أزوسا في لوس أنجلوس 1905)، والذين استخدموا الكاريزما لخلخلة الأنظمة القائمة دون الاعتماد على مؤسسات تقليدية.
وفي منتصف القرن العشرين، حل محلهم الخبراء مثل ألبرت آينشتاين و دوايت أيزنهاور، حيث استندت كاريزمتهم إلى ثقة الجمهور في العلم والتخصص كـ”منقذ للبشرية”. أخيراً، جاء دور المعلمين في نهاية القرن 20 وبداية الـ21، من الماهاراج جي (قائد بعثة النور الإلهي) الذي أدى تقبيل أقدامه إلى صدمات روحية تتطلب عناية طبية، إلى أوبرا وينفري التي قدمت مزيجاً من التفكير الإيجابي والتصوف، واعدين أتباعهم بـ”تجاوز سلطة المؤسسات”.
تصل وورثين إلى ذروة تحليلها مع ظاهرة دونالد ترامب، متحدية التفسيرات السطحية التي تركز على مظهره أو بلاغته. فخطاباته المتناقضة وشعره المميز لم يكونا عائقاً، بل جزءاً من جاذبيته، إذ تكتب: “يعلمنا تاريخ الزعماء الكاريزماتيين أن التركيز على منطق حججهم أو جاذبيتهم الشخصية خطأ جسيم. ما يهم هو أن ترامب استطاع أن يخلق لدى الملايين شعوراً بأن ‘قوياً ما يراهم ويسمعهم ويتحدث باسمهم'”. وتربط صعوده بعوامل عميقة كـالفراغ الروحي الناتج عن تراجع المؤسسات الدينية، و اليأس الاقتصادي لفئة الرجال البيض ذوي التعليم المتوسط، و عقود من الخطاب الإعلامي الذي غذاه راش ليمبو بـ”الطقس اليومي الشبيه بالقداس الديني”.
تكشف وورثين التناقض الجوهري في العلاقة الكاريزماتية: فمن ناحية تمنح الأتباع “حرية غريبة بالاندماج في شيء أكبر منهم”، لكنها تضعهم في الوقت نفسه تحت سيطرة قادة قد يكونون مستبدين أو محتالين. فبينما منحت ماريا وودوورث-إيتر آلاف المهمشين أملاً في الشفاء، جمع الماهاراج جي السيارات الفاخرة بينما عاش أتباعه في تقشف. وحتى في حالات الكاريزما “الإيجابية” كـمارتن لوثر كينغ، يحمل هذا النموذج خطراً: تحويل التغيير الاجتماعي إلى مسألة متعلقة بفرد استثنائي، بدلاً من حركة جماعية ديمقراطية.
رغم كل سلبياتها، تخلص وورثين إلى استمرار الجاذبية الكاريزماتية بسبب استجابتها لحاجة إنسانية عميقة: “الرغبة في فرض معنى وجودي على الفوضى”. فحتى في مجتمع يبدو علمانياً، تتحول السياسة والثقافة إلى ساحات بديلة لإشباع هذه الرغبة. اليوم، حيث تكتسب مصطلحات مثل “الريز” (rizz: اختصار لكاريزما) يذكرنا كتاب ” المفتونون” بأن سحر الكاريزما ليس مجرد مسألة شخصية، بل مرآة لسرديات خفية ننسجها جماعياً بحثاً عن يقين في عالم مضطرب. وكما تكتب وورثين: “أفضل طريقة لفهم الناس هي دراسة الأصنام التي يعبدونها، والقصص التي يروونها لأنفسهم”، مختزلة جوهر الظاهرة في فكرتها المحورية:
قلب الكاريزما هو فعل الكشف عن رواية خفية… تدعو الأتباع لتبني أدواراً في قائمة من الشخصيات الأخلاقية الواضحة، وطي حياتهم في حبكة منحنية نحو العدالة.
عن مجلة Los Angeles Review of Books