قبل أسابيع تبلغت ليتيسيا نيكولا من رب عملها أنها خسرت وظيفتها في خضم أزمة اقتصادية خانقة في لبنان، شكلت سببا رئيسيا في حركة احتجاج واسعة تشهدها البلاد منذ أكثر من أربعين يوما.
ومنذ 17 أكتوبر تشارك مهندسة الديكور ليتيسيا (28 عاما) في التظاهرات الناقمة على السلطة السياسية والمطالبة برحيلها بسبب عجزها عن وضع حلول للأزمات التي تعصف بلبنان على الصعد كافة، ووجدت نفسها بعد أسبوعين من «الثورة» عاطلة عن العمل.
وتقول لوكالة «فرانس برس»«قلت المشاريع منذ عام وكنا قد تبلغنا قبل بدء الثورة أننا سنحصل على نصف رواتبنا مقابل دوام جزئي في الشهرين الأخيرين من العام».
بعد اندلاع التظاهرات التي شلت البلد أقفلت شركة الهندسة أبوابها لأسبوعين على غرار غالبية القطاعات بعد ذلك تلقت ليتيسيا اتصالا للتوجه إلى المكتب حيث دفع لها آخر راتب و«أبلغوني أنني صُرفت من العمل»، وتشير إلى أن ما حصل ليس ناتجا عن الثورة، لكنها ربما سرعت مجرى الأمور.
على غرار ليتيسا يجد آلاف اللبنانيين أنفسهم مهددين بخسارة وظائفهم، وبعضهم خسرها بالفعل جراء صرف من دون سابق إنذار، بينما تلقى موظفون في قطاعات عدة تعليمات بالحضور إلى مراكز عملهم بدوام جزئي مقابل نصف راتب.
بين هؤلاء ماري (46 عاما)، وهي موظفة تستخدم اسما مستعارا خشية خسارة وظيفتها في متجر ألبسة نسائية راق في بيروت تعمل فيه منذ 16 عاما.
وتوضح لـ«فرانس برس» بدأنا منذ مطلع الشهر أخذ يومي إجازة إضافيين في كل أسبوع، وأبلغنا رب العمل أنهم سيضطرون إلى دفع نصف راتب لنا، على أن يتم تعويضنا لاحقا إذا تحسن الوضع.
لم تعترض ماري ونحو عشرين من زملائها على القرار لأننا نخشى الأسوأ ولا أحد سيخاطر بخسارة وظيفته في ظل هذه الأوضاع السيئة، مضيفة: «نعرف أن الوضع سيئ منذ أشهر، منذ أيام لم تدخل خمسون ألف ليرة إلى صندوقنا».
وتعد الأزمة الراهنة وليدة سنوات من النمو المتباطئ، مع عجز الدولة عن إجراء إصلاحات في البنى التحتية وخفض العجز، وتراجع حجم الاستثمارات الخارجية، عدا عن تداعيات الانقسام السياسي الذي فاقمه النزاع في سورية المجاورة منذ العام 2011 على اقتصاد يعتمد أساسا على الخدمات والسياحة.
وارتفع الدين العام إلى 86 مليار دولار، ما يعادل 150 % من إجمالي الناتج المحلي، وكان لبنان ينتظر الحصول على 11،6 مليار دولار كهبات وقروض أقرها مؤتمر «سيدر» في باريس العام 2018، مقابل إصلاحات هيكلية وخفض عجز الموازنة، لكن الانقسام إزاء تطبيق هذه المشاريع والخلاف على الحصص والتعيينات حال دون وفاء الحكومة بالتزاماتها.
وتقول مديرة مركز «كارنيغي» في الشرق الأوسط مهى يحيى: لا نتجه إلى أزمة، نحن في خضم تدهور اقتصادي.وتوقع البنك الدولي أن يسجل العام الحالي نسبة ركود أعلى من تلك المتوقعة مع نمو سلبي بنحو 0،2%. وحذر من أن معدل الفقر (ثلث اللبنانيين) قد يرتفع إلى 50%، ونسبة البطالة (أكثر من 30%) في صفوف الشباب مرشحة لارتفاع حاد، حيث بدأت قطاعات حيوية التحذير من سيناريوهات كارثية.
وحسب الهيئات الاقتصادية، وهو تجمع تنضوي ضمنه مؤسسات القطاع الخاص والمصارف، فإن «آلاف المؤسسات مهددة بالإقفال وعشرات آلاف الموظفين والعمال مهددون بفقدان وظائفهم»، وأحصت نقابة أصحاب المطاعم والملاهي إقفال 265 مؤسسة خلال شهرين، متوقعة أن يصل العدد في نهاية العام إلى 465.
وتشهد البلاد أزمة سيولة بدأت معالمها منذ مطلع العام، مع تحديد المصارف سقفا للتحويل إلى الدولار خفضته تدريجيا، مما تسبب بارتفاع سعر صرف الليرة الذي كان مثبتا على 1507 ليرات مقابل الدولار منذ سنوات، إلى أكثر من ألفين في السوق الموازية.
وحددت جمعية المصارف أخيرا سقف السحب الأسبوعي للمودعين بألف دولار، وحذرت قطاعات عدة من أنها لن تتمكن من استيراد مواد أساسية من الخارج بسبب شح الدولار، وطالب وزير الصحة العامة جميل جبق، مصرف لبنان بالتدخل لتوفير المبالغ الضرورية اللازمة بالدولار لتسهيل استيراد المعدات الطبية، حيث لاحظ اللبنانيون انقطاع عدد من الأدوية وارتفاعا كبيرا في أسعار المواد الغذائية، مقابل تقلص قدرتهم الشرائية.
ويقول بلال دندشلي المدير العام لشركتين صغيرتي الحجم تعمل إحداهما في قطاع دهانات الطرق وإجراءات الأمان وتعتمد على الاستيراد: «لم نعد اليوم قادرين على استيراد البضاعة أو تحصيل أموالنا من السوق».
ويتحدث من مكتبه الصغير في بيروت عن صعوبات الزبائن غير القادرين على الدفع أيضا: «كأننا نتسول أموالنا أريد من أحدهم عشرين ألف دولار، أحضر لي اليوم شيكا بألف دولار.
فكيف سنستمر؟»، ويخشى بلال على مستقبله وموظفيه العشرة، بالقول: «لا يعملون منذ نحو شهرين أستطيع أن أصمد لبضعة أشهر بعد، أو سأتجه إلى إقفال الشركة ومنحهم حقوقهم، وهذا أمر يعز علي لأنني سأجد كل ما بنيته خلال هذه السنوات ينهار أمامي».
ونبه الاتحاد العمالي العام من «صرف تعسفي» في عدد واسع من القطاعات، معتبرا أنه لا يمكن قبول التحجج بظرف طارئ لا يتجاوز الشهر ونصف الشهر للقيام بهذه الحملة.
وتقول ليتيسيا التي تمضي وقتها في إرسال سيرتها الذاتية إلى شركات أجنبية: «تلقيت عرض عمل من الكويت وأدرس الأمر حاليا»، مضيفة: «إذا كان السفر الخيار الوحيد فسأضطر إلى أخذه»، مؤكدة بينما تدمع عيناها: «سأبدأ من جديد لكن ليس هنا، لأنه ما من أمل».