بقلم /عبدالباري رشيد
معظم قارات العالم مرّت بتجارب مريرة تراوحت ما بين الحروب العسكرية وسقوط ملايين الضحايا، وما بين الاستعمار المباشر الذي تركزت اهتماماته على نهب الثروات الطبيعية وإبقاء الشعوب الواقعة تحت حذاء المستعمر في حالة من التخلف والجهل والفقر وغير ذلك من التوصيفات التي أفرزتها مثل تلك الحقب المأساوية، قارة أوروبا مثلاً شهدت حروباً دموية سقط فيها الملايين كما ذكرنا، ولكنها وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية نهضت وتصالحت بلدانها التي كانت بالأمس في ((عداوة)) وضبطت ((إيقاعاتها)) بإتجاه التنمية الاقتصادية وتشكيل نواة الوحدة فيما عرف في ستينات القرن الماضي بالسوق الأوروبية المشتركة التي ضمت في حينه عدة دول لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وظلت تتدرج في التوسع إلى أن وصل الاتحاد الأوروبي الآن إلى حالة سياسية وإقتصادية تشمل 28 بلداً، بمؤسسات سيادية وشؤون خارجية وبرلمان ((موحد)) وغير ذلك من الترتيبات التي يتمتع بها الاتحاد ، أما بالنسبة لقارة إفريقيا فقد ظلت في نظر الآخرين وخاصة الدول التى إستعمرتها مجرد ((حديقة)) خلفية لهم ـ ومنجم للمواد الخام التي تشتغل عليها صناعاتهم، ويطورون بها صناعة السلاح بصفة خاصة.
وقد رأينا مثلاً كيف أن مجموعة بلدان جنوب القارة ظلت تحت الهيمنة لعدة سنوات حتى بعد اشهار الأمم المتحدة وميثاقها الذي ينص على احترام حقوق الإنسان والدول في السيادة والخروج من دائرة الاستعمار.. وتقرير المصير ـ وظلت جمهورية جنوب إفريقيا بصفة خاصة في قبضة بقايا الحقبة الاستعمارية حيث استوطنها الرجل ((الابيض)) وزرع فيها عنصريته وحقده على السود من أبناء البلاد الاصليين وظل العنصريون المدعومون من القوى الكبرى يحتكرون ثرواتها الخام التي أنعشت الصناعات الثقيلة خاصة صناعة السلاح في دوله الكبرى وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي عارضت وبشدة وفي كل المحافل الدولية منح الاستقلال لذلك لبلد ـ إلى أن نهض الأفارقة هناك بمسؤولية الدفاع عن أنفسهم ومقاومة المستعمر الأبيض وتحصلوا على الاستقلال بقوافل الضحايا والمعذبين والمعتقلين والذين كان أبرزهم المناضل ((مانديلا)) الذي ((صمد)) في وجه الجلاد الأبيض حتى تحررت جمهورية جنوب إفريقيا، ولقد ادركت القارة السمراء بأن استقلال دولها يظل ناقصاً طالماً بقيت مجرد دويلات متفرقة في حين تشهد العالم من حولها وهو يصطف في إتحادات اقليمية سواء في آسيا ((الاسيان) أو في أوروبا ((الاتحاد الأوروبي)) ولقد كان الاتحاد الإفريقي أول ثمرات تلك الرؤية التي اعتمدت مبدأ التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتحصين شعوب القارة وجعلها تنتزع موقعها وبجدارة على خريطة العالم التي تشكلت بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة ، وتؤشر مؤتمرات القمم العادية التي تعقد عادة في مقر مفوضية الاتحاد الإفريقي باديس أبابا والاستثنائية التي تستضيفها إحدى البلدان العضو بالاتحاد مثل قمة ((نيامى)) بالنيجر التي التأمت صيف العام 2019م..
وتؤشر تلك المؤتمرات على سعى القارة للوصول إلى أعلى درجارت التنسيق والتكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن ايجاد حلول للأزمات التي قد تبرز داخل بلدانها بسبب الصراعات على السلطة والارث الاستعماري القديم الذي لعب دورا خطيراً في ((تمزيق)) النسيج الاجتماعي لأكثر من دولة إفريقية عبر اللعب على أوتار ((القبلية)) المقيته التي أنتجت لاحقاً صراعات مسلحة بين أبناء البلد الواحد والأمثلة على ذلك كثيرة سواء في جمهورية إفريقيا الوسطى أو في بنين أو في ((رواندة)) وغيرها.. واليوم وإحدى الدول الأعضاء بالاتحاد وهي ليبيا.. تتعرض لأزمة وحرب وعدوان على عاصمتها الكبرى، فإن الاتحاد الإفريقي يركز جهوده على ايجاد حل جذرى لأزمات ذلك البلد للخروج به إلى شواطئ الأمان وانتقاله من حالة ما يشبه الحرب الأهلية إلى الاستقرار والسلم الأهلي والمصالحة الوطنية وغير ذلك من أبجديات السلم الاجتماعي والتي تشكل أرضية صلبة لنهوض دولة المؤسسات وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وإجازة الدستور الدائم وغير ذلك من الترتيبات التي تفرز عادة الدولة ((المدنية)) وقد رصد المراقبون تصريحات عديدة لمسؤولين أفارقة وعلى أعلى المستويات بهذا الخصوص صدرت خلال الأيام القليلة الماضية ومنها مثلاً ما أشار إليه رئيس جمهورية الكونغو ((ساسو)) باعتباره رئيس اللجنة رفيعة المستوى والتي تضم عشرة بلدان إفريقية في دعوته للاتحاد الإفريقي بأن يعطى الازمة الليبية والعدوان القائم على العاصمة وضواحيها ((أولوية)) رئيسة خلال أعمال قمة الاتحاد العادية في أديس أبابا يومي 8 ـ 9 فبراير القادم وأعلن ((ساسو)) أيضاً بأن عاصمة بلاده ستحتضن اليوم 30 يناير قمة إفريقية مصغرة في إطار اللجنة رفيعة المستوى المشار إليها بصياغة مقترحات تعزز مخرجات قمة ((برلين)) وتضع حداً للأزمة الليبية بصورة عامة ، وبدوره ذكر وزير خارجية الكونغو الذي قام مؤخراً بتسليم دعوات المشاركة في القمة المصغرة بأن الوضع في ليبيا دخل مرحلة مثيرة للقلق، وبأن بلاده التي شاركت في قمة برلين تتفق مع الجميع على أنه لا حلاً عسكرياً للأزمة الليبية.. وفي نفس مسار تكثيف الجهود الدبلوماسية الإفريقية أعلن مفوض مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي السيد اسماعيل شرف مؤخراً بأن المجلس سيعقد أجتماعاً عشية قمة الاتحاد المقررة بأديس ابابا يومي 8 ـ 9 فبراير لمناقشة الملف الليبي واضاف إلى ذلك قوله بأن الاتحاد الأفريقي وبعد نجاح وساطته الأخيرة في جمهورية إفريقيا الوسطى يريد ((إسترجاع)) الملف الليبي ليبقى ملتزماً بدعم تسوية سلمية شاملة لذلك الملف، وهو ما ركز عليه أيضاً رئيس الكونغو ((نغيسو)) في تصريحات سبقت قمة برلين حين دعا إلى عدم تهميش إفريقيا في تسوية الأزمة الليبية ووصف أية تسوية لا تأخذ القارة السمراء في الحسبان بأنها ستكون غير فعالة.
وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى ما سبق وأن صرح به رئيس أحد البلدان الأعضاء بالاتحاد الإفريقي وهو تحديداً الرئيس التشادي ((ادريس دبى)) حين أكد خلال تصريح لمجلة ((جون افريك)) يوم 25 نوفمبر الماضي بأن الأفارقة يريدون حلاً جذرياً للأزمة الليبية القائمة منذ عدة سنوات ولكن القوى الكبرى لا تريد ذلك واستشهد في تصريحه على موقف عدائى من طرف بعض القوى الكبرى تجاه الملف الليبي تمثل في رفض تلك القوى لمقترح قدمه الاتحاد الإفريقي لترشيح الرئيس الموريتاني الأسبق كمبعوث دولي إلى ليبيا وباركت المقترح الأمم المتحدة وأطراف دولية أخرى غير أن ما أسماه بالدول الكبرى عرقلت مسعى الاتحاد في ذلك الاتجاه وبكل تأكيد فإن التأخير الحاصل الآن ودخول الحرب على العاصمة شهرها العاشر يعود إلى عدم أتخاذ قرارات حاسمة من طرف مجلس الأمن الدولي الذي ظل يراوح في مكانه طوال فترة الحرب على عاصمة كل الليبيين..