أشرعة
بقلم / جمال الزائدي
لنتفق أن القيمة التاريخية للثورة الفرنسية عام 1789 م -على سبيل المثال – لاتتكيء إلى نجاح « روبسبير» في اختراع المقصلة التي حز بها أعناق من سماهم «خصوم الشعب» ..بل على منظومة المفاهيم والمباديء الاجتماعية والسياسية الجديدة التي أبدعتها او أعادت صياغتها كتابات وتنظيرات «جان جاك روسو» و»مونتسكيو» وغيرهما متظافرة مع لحظة تنوير فارقة سقطت فيها علاقات الإنتاج والمنظومة القديمة لتفسح المجال أمام نمط جديد من العلاقات والقيم المتصلة بآلية الاقتصاد المعرفي الرأسمالي وقيم الفكر العلماني..
في مجتمعاتنا الشرق أوسطية المعاصرة ثمة تصور تتبناه «النخب» الإعلامية التي احتكرت منابر التحريض خلال السنوات الماضية مفاده أن نمط الاستبداد السياسي الذي يسود حاضر ومستقبل هذه المنطقة هو صنيعة قرار شخصي تورطت فيه الأنظمة الحاكمة «عسكرية وعائلية»..
بينما الاستقراء الموضوعي يقتضينا القول : أن الاستبداد عموما و السياسي على وجه الخصوص ليس طفرة منبتة تصيب تاريخ الشعوب دون مبررات منطقية مفهومة..بقدر ماهو تجل عملي وترجمة واقعية لمنظومة قيم تتحكم في السلوك العام والخاص بدءا من العلاقة الجنسية على فراش الزوجية ..مرورا بطريقة تربية الأطفال ..وصولا إلى التصور الفلسفي الذي يضعه عقل الجماعة حول العدالة الإلهية.
القصد أن (الحجاج ) ماكان ليوجد ويخلد في ذاكرتنا لو لم يكن انعكاسا ماديا لتواطؤ نفسي يبرره إيمان لا يتزعزع بالشوكة والمغالبة كمبدأ للتأسيس والبناء.. على جانب متصل وإمعانا في الطهرانية الجمعية والتنصل من المسؤولية الذاتية غالبا ماتلقي الشعوب الشرق أوسطية أسباب تخلفها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على أكتاف الآخر وعلى ذلك يصطف طابور طويل من المتهمين يبدأ بالمغول والتتار ثم الصليبيين ثم الأتراك والاستعمار الأوروبي وينتهي بإسرائيل والإمبريالية الأمريكية..ومع التسليم بدور هؤلاء في تكريس شقاء منطقتنا غير أن تخصيصهم بالجريمة عمل مجاف للإنصاف والعقلانية .. ثمة تراث هائل يحظى بالحصانة ورصيد من الكراهية والغرور يمنعنا- نحن الشرق أوسطيين – من ملامسة الأحلام الجميلة التي لونها محمود جبريل وبرهان غليون بزخرف القول .. هناك محتكر الخطاب الذي ظهر كشريك في الحراك منذ البداية ثم أسفر عن نواياه الوقحة في التفرد بالمشهد وأصدر «فيتو « يمنع الجميع من مجرد إنتقاده تحت دعاوى شتى.. هناك وهذ الأهم بنية إجتماعية وثقافية ضاربة في القدم تحتل فيها العشيرة والقبيلة والطائفة مكانا مرموقا يجعل من المدن المصطنعة المنتشرة في كامل جغرافيا المنطقة مجرد استعارة بلاغية هشة في متن صلب لا يتحدث غير البداوة الفصيحة .. لذا ليس من حق النخبة التي قادت أحلام الناس وطموحاتهم نحو هاوية الفوضى والاقتتال الاهلي أن تدعي اليوم الصدمة إزاء المشاهد الوحشية الدامية التي تتصاعد وتيرتها في أكثر من بلاد.. لقد رأينا بأم أعيننا ان هدم العالم القديم لم يكن امرا مستحيلا ..لكن ماكان يحتاج إلى إعمال المنهج العلمي النقدي وقدح الفكر والخيال هو تصور شكل العالم الجديد الذي يمكن ان يبنى على أنقاضه.. وهذه بالضبط مهمة الطبقة المثقفة التي يفترض بها أن ترسم أمام شعوبها مسارات التغيير والانتقال بحبر من الامل والتوق ولغة تنحت حرفها من مادة العقل .. إن المفزع حقا ليست هذه الصور البشعة لأنهار الدم المتدفقة في اكثر من شارع ومدينة فالدم على مايثيره في القلوب الرحيمة من حزن و إحباط هو الوقود الأساسي لعربة التاريخ ..و الكارثة أن يهرق هكذا عبثا دونما غاية وهدف ثمين تضاهي قيمته قيمة الدم الذي ننزفه كل لحظة..والسبب غياب النخبة القادرة على استنطاق الراهن والتاريخ وفق منهج نقدي واقعي لصياغة رؤية واضحة للتغيير والانتقال نحو المستقبل.