منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

الإنفاق الصحي في ليبيا بين وفرة الموارد وغياب الأثر

د.علي المبروك أبوقرين

لا تعكس مستويات الإنفاق الصحي في ليبيا النتائج الصحية المتحققة على أرض الواقع ولا تتناسب مع حجم الموارد العامة المتاحة للدولة فليبيا ليست دولة فقيرة وتمتلك قدرات مالية تفوق العديد من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ومع ذلك يعاني النظام الصحي تدهور مستمر في التغطية والجودة والعدالة وهو ما يطرح سؤال جوهري لا يتعلق بحجم الإنفاق بقدر ما يتعلق بكيفية تخصيصه وإدارته وتنفيذه لقد تميز الإنفاق الصحي خلال السنوات الماضية بغياب الرؤية الاستراتيجية وضعف تحديد الأولويات والاعتماد على ميزانيات تاريخية أو تفاوضية لا تستند إلى بيانات وبائية أو احتياجات سكانية حقيقية وهو ما أدى إلى تشوهات عميقة في هيكل الإنفاق حيث تركزت الموارد على بنود مرتفعة التكلفة منخفضة العائد الصحي مثل التوسع غير المبرر في المنشآت والتجهيزات في مقابل إهمال مزمن للرعاية الصحية الأولية والوقاية والصحة العامة وهي المجالات التي تحقق أعلى أثر صحي بأقل تكلفة ، كما يتسم الإنفاق الصحي بضعف شديد في كفاءة التنفيذ حيث تتكرر مظاهر الهدر والتسرب المالي وتأخر الصرف وازدواجية الإنفاق بين جهات متعددة في ظل منظومة مشتريات صحية غير منضبطة خصوصا في مجالي الدواء والمستلزمات الطبية الأمر الذي أدى إلى استنزاف الموارد دون تحقيق قيمة حقيقية مقابل المال وأسهم في فقدان الدولة لسيطرتها على أحد أكثر القطاعات حساسية وسيادية ويزداد الوضع تعقيدا مع تفكك الحوكمة المالية للقطاع الصحي وتداخل الصلاحيات وغياب أنظمة معلومات مالية وصحية موثوقة ما يضعف قدرة وزارة المالية على التخطيط والرقابة الاستباقية ويجعل الإنفاق الصحي أقرب إلى ردود أفعال ظرفية منه إلى سياسة عامة مدروسة ، وفي هذا السياق يصبح من غير الدقيق توصيف أزمة الصحة في ليبيا باعتبارها أزمة تمويل فحسب بل هي بالأساس أزمة كفاءة وفعالية إنفاق فزيادة المخصصات دون إصلاح جذري لمنطق الميزنة والتنفيذ والحوكمة لن تؤدي إلا إلى تعميق الهدر وتوسيع الفجوة بين الإنفاق والنتائج الصحية ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة توجيه دور وزارة المالية بالتكامل مع وزارة الصحة من مجرد جهة تمويل وضبط إلى فاعل مركزي في تحسين جودة الإنفاق الصحي وتعظيم العائد الصحي للاستثمار العام ، إن أي إصلاح جاد للإنفاق الصحي في ليبيا لا بد أن ينطلق من إعادة بناء عملية الميزنة ذاتها بحيث تقوم على العبء المرضي الحقيقي والتوزيع الديموغرافي والجغرافي للسكان بدل الاعتماد على أنماط إنفاق تاريخية أو اعتبارات تفاوضية كما يتطلب الأمر إعادة ترتيب أولويات الإنفاق لصالح الرعاية الصحية الأولية والطب الوقائي وخدمات صحة الأم والطفل وإدارة الأمراض المزمنة بما يقلل الضغط على المستشفيات ويحد من تكاليف العلاج المتأخر ويعزز العدالة في الوصول إلى الخدمات ويستدعي ذلك ربط التمويل الصحي بالأداء والنتائج بدل الاقتصار على تمويل المدخلات والمنشآت والأعداد بحيث تُوجه الموارد نحو التدخلات الأعلى أثرا والأكثر كفاءة مع مراعاة خصوصية المناطق المحرومة ، كما يفرض الواقع الليبي ضرورة ضبط التوسع غير المبرر في إنشاء المرافق الصحية وشراء التجهيزات الطبية وإخضاع أي توسع جديد لتقييم اقتصادي وفني صارم يحدد التكلفة والعائد الصحي ويمنع ازدواجية الخدمات ويوقف الترفيع الإداري غير المبرر للمرافق والذي أثقل كاهل الميزانية دون أن يحسن جودة الخدمة وفي موازاة ذلك لا يمكن تحسين جودة الإنفاق دون إصلاح جذري لنظام المشتريات الصحية الذي يمثل أكبر بوابة للهدر والفساد إذ يتطلب الأمر اعتماد مشتريات مركزية شفافة وقوائم دوائية وطنية ومواصفات فنية موحدة وآليات تفاوض تسعيري تضمن الجودة والقيمة مقابل المال ، ويظل الدواء في قلب معادلة الإنفاق الصحي حيث يستوجب الإصلاح استعادة الدور السيادي للدولة في تنظيم شراء وتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية ووضع ضوابط صارمة للاستيراد والتخزين والتوزيع وربط التمويل بالالتزام بالمعايير الفنية والمهنية بما يحمي صحة المجتمع ويحد من إغراق السوق بالأدوية المغشوشة والمزورة ولا يقل عن ذلك أهمية تحسين تنفيذ الميزانية الصحية ذاتها من خلال تعزيز المتابعة أثناء التنفيذ والحد من التسرب المالي وربط الصرف بخطط تشغيل واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس ، وعلى مستوى الحوكمة لا يمكن تحقيق أي أثر مستدام دون توحيد الإطار المالي للقطاع الصحي وإنهاء التفتيت المؤسسي وتضارب الصلاحيات بين الجهات المختلفة وبناء نظم معلومات مالية وصحية رقمية متكاملة تربط التمويل بالخدمات المقدمة والنتائج الصحية وتُمكن وزارة المالية من رقابة ذكية قائمة على البيانات لا على الإجراءات الورقية المتأخرة ويكتمل هذا الإطار بضرورة معالجة أحد أخطر تشوهات الإنفاق الصحي في ليبيا والمتمثل في تضارب المصالح وذوبان الحدود بين القطاعين العام والخاص عبر وضع أطر قانونية وتنفيذية صارمة للفصل والحوكمة وربط الوظيفة العامة بالالتزام الأخلاقي والمهني ، وبهذا الفهم لا تُطرح هذه المقاربة بوصفها مجموعة إجراءات تقنية معزولة بل كإطار إصلاحي متكامل يعيد بناء منطق الإنفاق الصحي من التخطيط إلى التنفيذ إلى الحوكمة ويحول المال العام من أداة إنفاق بلا أثر إلى استثمار حقيقي في صحة الإنسان ويؤكد أن أزمة الصحة في ليبيا ليست قدرا محتوما بل نتيجة خيارات يمكن تصحيحها متى ما استُعيد القرار الصحي إلى العلم والتخطيط والمساءلة ومتى ما أُعيد للإنفاق الصحي معناه الحقيقي بوصفه ركيزة للعدالة الاجتماعية وأحد أعمدة الدولة الحديثة ، ويجدر التأكيد في هذا السياق أن أي إصلاح مالي وصحي جاد وشامل لا يمكن أن يكتمل دون رفع نسبة الإنفاق الصحي العام تدريجيًا ليوازي في حدّه الأدنى مستويات الدول المتقدمة وبما لا يقل عن خمسة عشر في المئة من الدخل القومي فليبيا إلى أن تتغير هويتها ونهجها الاقتصادي ليست في حاجة إلى نماذج التأمين الصحي الطفيلي ولا إلى الأصوات التي تنادي دون معرفة أو تخصص أو دراسة بإنشاء صناديق أو فرض استقطاعات من الناس وكأن البلاد دولة فقيرة عاجزة عن تمويل صحة مواطنيها إذ إن جوهر الإصلاح لا يكمن في تحميل المجتمع أعباء جديدة بل في تحمل الدولة لمسؤوليتها الكاملة في تمويل الصحة من الخزينة العامة وضمان عدالة الوصول وجودة الخدمة وحماية الصحة بوصفها حقًا أصيلًا لا سلعة ولا مجالًا للتجريب المالي أو الارتزاق باسم الإصلاح .

شاهد أيضاً

دراسة بريطانية: تناول الأطباق العالمية يعزز التسامح تجاه المهاجرين

دراسة بريطانية: تناول الأطباق العالمية يعزز التسامح تجاه المهاجرين

أظهرت دراسة بريطانية حديثة أن تناول المأكولات العالمية لا يمنح نظامًا غذائيًا أكثر تنوعًا فحسب، …