منصة الصباح
د.علي المبروك أبوقرين

الإنسان في مرآة المرض والصحة

منذ أن أطلّ الإنسان على الوجود ، خرج من رحم الغيب إلى ساحة الحياة ، محمولًا على ضعفٍ وباحثًا عن توازنٍ بين الفناء والبقاء ، ولم تكن صحته هبةً دائمة ، بل عهدًا هشًّا بينه وبين الطبيعة ، وبين الجسد والعقل والروح ، فمنذ اللحظة الأولى يدخل الإنسان معركة غير معلنة ضد المرض ، صراعًا وجوديًّا لا يُكسب إلى الأبد ، لكنه يمنح للحياة معناها وحرارتها ، وفي أعماق التاريخ كانت الأمراض أقدارًا غامضة تنزل كعقابٍ من السماء أو كرسائل من الآلهة ، ثم صار الطبّ محاولة لفهم تلك الرسائل ، فتعلم الإنسان أن يقاوم ، وأن يطبب نفسه بالأعشاب والنار والماء والتراب ، وأن يصلي للشفاء كما يعمل لأجله ، ثم تقدّم العلم وتحوّل الخوف إلى معرفة ، والمعرفة إلى علاج ، والعلاج إلى منظومات صحية تحفظ الحياة وتحسّنها ، ومع ذلك لم يكن المرض عدوًّا مطلقًا ، بل معلّما خفيًّا يذكّر الإنسان بحدوده وبحاجته إلى الآخرين ، فالمرض في عمقه تجربة روحية ، يختبر فيها الإنسان معنى الضعف والتضامن والأمل ، ويكتشف أن الحياة ليست في طول العمر وحده ، بل في جودة اللحظة التي يعيشها وهو في تمام الوعي بمعناها ، ولم يزل الإنسان جيلاً بعد جيل يحاول أن يمدّ الجسر بين الجسد والعقل ، وبين الطبيعة والتقنية ، وبين الغريزة والمعرفة ، فظهرت نظم الصحة العامة، واللقاحات والمختبرات والمستشفيات ، وكلها محاولات لترويض المجهول ، ولتطويق الخطر في دوائر العلم والإدارة ، ومع أن الأمراض تتبدّل وتتنكر ، من أوبئة عابرة إلى أمراض مزمنة ومستعصية ، فإنّ الإنسان يظلّ في حالة استعداد دائم ، متشبثًا بأمل البقاء أطول وبصحة أفضل ، فكلّما اكتشف دواءً جديدًا واجه مرضًا آخر ، وكأن الطبيعة تذكّره أن الكمال ليس من نصيبه ، وأن سرّ الحياة في استمرار المحاولة لا في الوصول , واليوم وقد طال متوسط العمر وارتفعت معدلات البقاء ، تبرز مهمة جديدة وهي أن نحيا لا فقط أطول ، بل أصفى وأجمل ، وأن نجعل الصحة طريقًا إلى الوعي لا مجرد وقاية من الموت ، فالصحة ليست غياب المرض ، بل حضور التوازن بين الجسد والنفس والعقل والبيئة ، وفي نهاية المطاف ، تتجلّى عظمة الصحة لا في غياب الألم فحسب ، بل في حضور الإنسان بكامل وعيه في جسده وروحه وعقله ، متصالحًا مع نفسه ، ومتناغمًا مع الطبيعة ، ومنتميًا إلى نظامٍ صحيّ عادلٍ يُكرّس قيمة الإنسان لا ثمنه . والصحة ليست مجرد ملفٍ طبيّ أو رقمٍ في ميزانية ، بل هي عمود الوجود الإنساني الذي يقوم عليه العقل ليستنير ، والجسد ليعمل ، والروح لتتسامى ، وحين يتقدّم العلم بخطاه نحو المجهول ، يكتشف أن المعرفة ليست غاية ، بل وسيلة لحماية المعنى الأسمى للحياة الوعي . فكل لقاح هو انتصار على الجهل قبل أن يكون سلاحًا ضد الفيروس ، وكل نظام صحيّ عادل هو تجسيد لعدالة المجتمع ونضجه ، وإنّ كمال الصحة لا يتحقق بالدواء وحده ، بل بالعلم الذي ينير الطريق ، وبالنظام الذي يصون العدالة ، وبالوعي الذي يزرع في الإنسان إدراك مسؤوليته تجاه جسده والآخرين والبيئة من حوله ، وهكذا تبقى الصحة أرقى مظاهر الحضارة ، وأعمق أشكال الإيمان بالحياة ، وجسرًا بين المادي والروحي ، وبين المعرفة والرحمة ، وبين الفرد والمجتمع ، فمن يحافظ على الصحة إنما يحافظ على سرّ الوجود نفسه ، وسرّ الخلق الذي وهب الإنسان القدرة على أن يمرض ليبحث ، وأن يضعف ليؤمن ، وأن يشفى ليكمل رحلته في الوعي والنور ، ونؤكد أن الصحة ليست غياب المرض ، بل حضور الإنسان في توازنه الكامل بين الجسد والعقل والروح ، وهي وعيه العميق بحدوده ، وإيمانه بأن الحياة لا تُقاس بطولها ، بل بصفاء معناها وقدرته على مواجهة الضعف بالعلم والإيمان ، والنظام الصحي القوي ليس منّة من دولة ، بل ميثاق كرامة بين الإنسان ومجتمعه ، يحميه من الفقر حين يمرض ، ويصون حقه في العلاج دون إذلال أو تمييز ، والصحة ليست سلعة تُشترى ، بل أسمى الحقوق التي تنهض بها الأمم وتُقاس بها إنسانيتها ، فليكن العلم حارسًا ، والوعي ضميرًا ، والنظام الصحي وعدًا لا يُخلف ، وأن تبقى الصحة حقًّا مقدّسًا لا يُشترى ولا يُباع .

د.علي المبروك أبوقرين

شاهد أيضاً

الطقس

الأحوال الجوية المتوقعة على ليبيا اليوم

الصباح توقع مركز الأرصاد الجوية، أن تبقى الأجواء معتدلة على معظم مناطق البلاد، مع تكاثر …