منصة الصباح
بين الريع والسرديات المسلحة: كيف اختُطف الإعلام الخاص في ليبيا؟

بين الريع والسرديات المسلحة: كيف اختُطف الإعلام الخاص في ليبيا؟

حوار مع الصحفية التونسية “سونيا عاتي”

(حاورها: طارق القزيري)

في الحقول التي يُستبدل فيها الحبر بالبارود، لا يبقى للكلمة حيادها المُفترض. تتحول الشاشات إلى خنادق، والميكروفونات إلى أسلحة ناعمة، والصحفي — ذلك العابر المفترض بين الحدث والجمهور — يجد نفسه محاصراً بسؤال وجودي: هل أنت شاهد أم متهم؟

هذا حوار مع صحفية تونسية عبرت الحدود لتعمل في بيئة إعلامية ليبية مشتعلة بالصراع والاستقطاب. عملت في قناتي (218) و(WTV)، وكتبت عن ليبيا في مواقع من بينها (رصيف 22). لم تحمل معها حقيبة الحياد الكلاسيكي، بل اكتشفت أن المسافة المهنية نفسها قد تكون فخاً، وأن “الغريب” عن الصراع ليس بالضرورة أكثر حرية، بل ربما أكثر هشاشة.

تتحدث عن إعلام ريعي يُدار بمنطق الولاء لا الكفاءة، عن صحافة ظل تُبنى على أنقاض الشفافية المفقودة، وعن سرديات مسلّحة تُعاد صياغتها يومياً في غرف تحرير تشبه غرف عمليات.

لكنها — وهذا الأهم — لا تكتفي بالنواح المهني، بل تقدم أدوات نجاة، وحلولاً عملية، وخطوطاً حمراء يمكن رسمها حتى في أكثر الميادين اشتعالاً.

الإعلام في مناطق الصراع ليس مرآة بريئة، بل فاعل يُشكّل الواقع بقدر ما يعكسه. وحين يفقد بوصلته المهنية، يتحول إلى ميليشيا ناعمة أخطر أحياناً من السلاح نفسه.

شهادة من الداخل: قد تُصيب أو تُخطئ، تُربك وتُحرّك، أو تُبالغ، لكنها بلا مجاملات، بلا أوهام.

1. الفجوة بين الخطاب التونسي “المستقر نسبيًا” والليبي “المسلّح”

كيف تُحدث هذه الفجوة تشظياً في الهوية المهنية للصحفي التونسي العامل في ليبيا؟ وهل يتحول من ناقل للحدث إلى طرف في الصراع؟

• بصراحة، لا توجد منطقة رمادية حقيقية في ليبيا. إما أن تكون داخل اللعبة أو تُحسب على طرفٍ دون أن تقصد. أنا كصحفية تونسية وجدت نفسي في البداية أتصرف كجسر للخبر، لكن سرعان ما اكتشفت أن كل جسر يُستخدم للعبور في اتجاه واحد. الفجوة بين الهدوء التونسي وصخب الخطاب الليبي لا تترك لك خياراً سوى أن تضع حدودك بنفسك، وهذا ما فعلت.

إذا لم تفعل، سيضعها الآخرون نيابةً عنك. في ليبيا، الصحفي ليس مراقباً محايداً، بل يُنظر إليه كأداة محتملة في معركة السرديات، وهذه الحقيقة قاسية لكنها واقعية.

الحل العملي هو تعاقد مهني صريح مع المؤسسة يحدد الخطوط الحمراء، وبناء شبكة مصادر متعددة ومتناقضة حتى لا تصبح أسيراً لزاوية واحدة.

أنت لست محايداً بين الحقيقة والأكاذيب، لكنك محايد بين الأطراف في طريقة جمعك للمعلومة وعرضها.

وهذا تماماً ما وجدته في آخر مؤسسة ليبية عملت بها، وهي مؤسسة الوسط. الآن، وبعد خروجي منها، أستطيع الجزم بأنها من بين القلائل التي لا تنحاز لأي طرف، وتحاول أن تكون مع ليبيا فقط.

2. بين الموالاة والكفاءة: هل الإعلام الليبي ريعي بطبيعته؟

كيف يمكن فهم مساحات الاستقلالية في إعلام يقوم على الولاء؟ وهل تُخنق المبادرات الفردية؟

• الإعلام الريعي يعني أن المموّل هو الزبون. في هذه المعادلة، الاستقلالية ليست حقاً أصيلاً بل هامشاً تفاوضياً.

وبكل وضوح، أغلب الإعلام في ليبيا مرتهن بالكامل للمال السياسي أو الجهوي. الكفاءة لا تُكافأ إلا إذا صادفت الولاء. أي مبادرة فردية لا تمر عبر “الزعيم” أو “الراعي” تموت قبل أن تولد.

صحيح، هناك مساحات صغيرة للمناورة، لكنك تدفع ثمنها من أعصابك وموقعك.

أحياناً يمكن انتزاع هامش حرية عبر صياغة الأسئلة، أو ترتيب الضيوف، أو اختيار الزوايا، أو الاشتغال على الصحافة المحلية بعيداً عن ملفات السيادة.

لكن سقف المبادرات الفردية يهبط بسرعة عندما تلامس مصالح الممول أو حلفائه.

الاستقلالية الواقعية تُبنى عبر تنويع مصادر التمويل، وتشكيل تحالفات مهنية تحمي المعايير، وبجمهورٍ واعٍ يتابع الجودة لا الخطاب.

بدون هذه الثلاثية تختنق المبادرات وتتحول إلى جهود بطولية معزولة.

الاستقلالية الحقيقية حلم جميل، لكنه شبه مستحيل في ظل غياب نموذج اقتصادي مستقر. كل صحفي مستقل في ليبيا يسير عملياً على حبلٍ مشدود فوق النار.

3. الشفافية المفقودة وولادة “صحافة الظل”

هل أدى غياب حق الوصول إلى المعلومة إلى ظهور مصادر بديلة أكثر مصداقية ولكن أقل احترافاً؟

• نعم، هناك ما يشبه “صحافة الظل” في ليبيا. عندما تُغلق الدولة أبوابها أمام المعلومة، يفتح الناس هواتفهم. يصبح النشطاء والمصادر المحلية هم “الوكالات البديلة”.

أحياناً يقدمون معلومات أدق من المؤسسات الرسمية، لكنهم أيضاً قد يجرونك إلى فخاخ سياسية. ميزتهم القرب وسرعة الوصول، وعيبهم غياب منهجية التحقق.

وهذا يخلق وهماً بالمصداقية لأن المعلومة تبدو “حية”، لكنها قد تكون مجتزأة أو مسيّسة.

معادلتي العملية بسيطة: استخدم هذه الشبكات كجرس إنذار، لا كدليل نهائي.

أعتمد أحياناً على هؤلاء، لكنني لا أصدق أي معلومة قبل أن أفحصها مرتين على الأقل.

هذه ليست رفاهية مهنية، بل مسألة بقاء مهني في بيئة مسمومة بالمعلومات الموجَّهة.

4. الغريب عن الصراع: أكثر حرية أم أكثر هشاشة؟

• كوني غريبة عن الصراع منحني بعض الحرية في البداية؛ الغريب يملك ميزة المسافة وعيب الهشاشة. يمكنك أن تقولي ما لا يجرؤ عليه الداخل، لكنك أول من يدفع الثمن إذا أصبت عصب المؤسسة.

سرعان ما تحولت تلك الحرية إلى عبء. في لحظة معينة، الجميع يريد أن يعرف: من أنتِ مع ومن أنتِ ضد؟

الولاء الخفي ليس وهماً، بل حقيقة تُدار بها غرف التحرير. لا أحد يصرّح بها، لكنها تُفرض بتصرفات صغيرة ومتراكمة. إذا لم تتكيف، يتم تهميشك أو استبعادك ببساطة.

5. المقدم التلفزيوني الليبي: الكفاءة أم الولاء؟

• في ليبيا، من يظن أن الاحترافية وحدها تصنع نفوذاً إعلامياً فهو ساذج. الانتماء الجهوي والموقف السياسي هما بطاقة المرور إلى الشاشة.

بعض المقدمين لا يملكون ربع الكفاءة، لكنهم يملكون “الانتماء الصحيح”، فيُمنحون الضوء الأخضر.

هذا يخلق إعلاماً هشاً في نظر الجمهور، لأن الناس تعرف أن الشاشة لا تعكس الحقيقة، بل موازين القوى.

ومع ذلك، هناك قامات إعلامية متميزة رغم قلتها. الجمهور الليبي فقد الثقة في الإعلام لأنه يرى المسرح من الخلف.

6. إذا خرج الإعلاميون الليبيون من ليبيا…

• خارج ليبيا، يتراجع ثقل السرديات المحلية لصالح ضرورات السوق والمصداقية. نعم، يُستدعى الصراع أحياناً داخل شبكات الزمالة، لكن قواعد المؤسسات الكبرى ومقتضيات الإعلان والسمعة تفرض عقلانية الخطاب: مزيداً من المعايير، وقلّة في الشعارات.

الغربة لا توحّد تلقائياً، لكنها تخلق حافزاً براغماتياً للالتزام بالمهنية، لأنها العملة الوحيدة القابلة للصرف في الخارج. من ينجح هو من يحوّل خبرته المحلية إلى قيمة مضافة، لا إلى حرب متنقلة.

7. هل تصلح التجربة التونسية نموذجاً؟

• ليبيا حالة مختلفة بنيوياً بسبب السلاح والجهويات والاقتصاد الريعي. لكن من تونس يمكن استعارة أدوات لا وصفات:

التعددية داخل المؤسسة، مجالس تحرير منتخبة، مواثيق سلوك معلنة، وهيئات تعديل مستقلة بتمثيل مهني حقيقي.

الدرس الأهم هو الشفافية: الاعتراف بالأخطاء أمام الجمهور بدلاً من الالتفاف اللغوي.

السردية الوطنية لا تُبنى بحملات اتصالية، بل بتراكم الصحافة الجادة ومساحات الحوار التي لا تُقصي الآخر، حتى في الخلاف الجذري.

ومع ذلك، يمكن لليبيين أن يصنعوا نموذجهم الخاص إذا توقف الإعلام عن لعب دور “الميليشيا الناعمة”.

8. التمويل… المايسترو الخفي لغرف الأخبار

• التمويل في ليبيا ليس مجرد خلفية، بل هو المايسترو الذي يحدد اللحن. القناة التي يمولها طرف سياسي لا يمكنها أن تقف ضده.

التمويل هو التصميم الخفي لغرفة الأخبار: يحدد الملفات، الضيوف، وحتى ما لا يُقال.

الفصل الكامل مستحيل، لكن يمكن التخفيف عبر الشفافية: إعلان الممولين على موقع القناة، وجود مجالس أمناء مستقلة، تمويل جماعي لبرامج التحقيق، ونظام تضارب مصالح واضح.

حين يعرف الجمهور من يدفع الفاتورة، يصبح قادراً على قراءة الخبر بعين نقدية. السر ليس في إخفاء الأجندة بل في كشفها وخلق توازنات داخلية حولها.

9. الإعلام الليبي: مرآة للأزمة أم شريك فيها؟

• الإعلام الليبي اليوم لا يعكس الأزمة فقط، بل يضخ فيها وقوداً يومياً. أغلب القنوات تعيد إنتاج الانقسام وتمنحه شرعية باردة من خلال نشره كأنه حدث عادي.

هكذا يتحول الانقسام إلى “واقع” لا يُناقش. لا توجد مساءلة حقيقية، ولا تحقيقات عميقة، فقط خطاب موجَّه واصطفافات.

الإعلام في ليبيا اليوم جزء من الأزمة، وأحياناً أخطر من السلاح، لأنه يمنح الانقسام لغة وشكلاً ومشروعية.

شاهد أيضاً

أزمة نقص المشغلات… على المحك

أزمة نقص المشغلات… على المحك

لقاء / سعاد الفرجاني تفاقمت أزمة المختبرات الطبية في ليبيا مع اتساع دائرة النقص في …