* معزّ الصادق الورشفاني
المعايير الدولية اختصاص الدول وضمانات كشف الحقيقة دراسة قانونية تحليلية
مقدمة..
أثار تكرار حوادث سقوط الطائرات، لا سيما تلك ذات الطابع الدولي، إشكاليات قانونية معقّدة تتجاوز البعد التقني للحادث لتلامس مبادئ السيادة، والاختصاص، والشفافية، وحقوق الضحايا. ومن خلال ممارستي واهتمامي بالقانون الدولي، أرى أن التحقيق في هذه الحوادث لا يمكن فهمه أو تقييمه بمعزل عن الإطار القانوني الدولي المنظِّم للطيران المدني، والذي سعى منذ منتصف القرن الماضي إلى إخضاع هذا المجال لقواعد موحّدة تقوم على التعاون الدولي لا على الاعتبارات الانفرادية.
ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة عند وقوع حادث تشترك فيه عدة دول، سواء من حيث موقع الحادث، أو تسجيل الطائرة، أو تشغيلها، أو جنسية الضحايا
أولًا: الأساس القانوني الدولي للتحقيق في حوادث الطيران.
يستند النظام الدولي للتحقيق في حوادث الطيران المدني إلى اتفاقية شيكاغو للطيران المدني الدولي لعام 1944، التي تُعد المرجعية القانونية الأساسية لتنظيم الملاحة الجوية الدولية، والتي أنشأت منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) بوصفها الهيئة المختصة بوضع المعايير الفنية والقانونية.
وقد كرّست المادة (26) من الاتفاقية مبدأً محوريًا، مؤداه أن الدولة التي يقع الحادث على إقليمها تتولى إجراء التحقيق، على أن يتم ذلك وفق إجراءات تضمن العدالة والشفافية، ومع تمكين الدول الأخرى ذات الصلة من المشاركة.
ويُستكمل هذا الإطار عبر الملحق رقم (13)، الذي يُعد الوثيقة الأكثر تفصيلًا وتنظيمًا لمسألة التحقيق في الحوادث والوقائع الجوية.
ثانيًا: الطبيعة القانونية للتحقيق –
تحقيق فني لا قضائي من المبادئ التي تعد جوهرية في فهم نظام التحقيق الدولي، أن التحقيق في حوادث الطيران هو تحقيق فني وقائي، وليس تحقيقًا جنائيًا أو مدنيًا.
وقد نص الملحق (13) صراحة على أن الغاية الأساسية من التحقيق هي:
تحديد الأسباب والظروف الفنية للحادث استخلاص الدروس والتوصيات اللازمة لتعزيز السلامة الجوية منع تكرار الحوادث مستقبلًا ولا يهدف التحقيق، من حيث الأصل، إلى إسناد الخطأ أو تحديد المسؤولية القانونية، وهو ما يُعد ضمانة أساسية لنزاهة التحقيق وتشجيع الأطراف على التعاون الكامل دون خشية من المساءلة القضائية المباشرة.
ثالثًا: توزيع الاختصاص بين الدول المعنية بالحادث
يعتمد النظام القانوني الدولي للطيران على توزيع وظيفي للاختصاص، لا على احتكار دولة واحدة لكامل مسار التحقيق.
ويُميز الملحق (13) بين خمس دول رئيسية قد تكون معنية بالحادث، وهي:
دولة موقع الحادث دولة تسجيل الطائرة دولة تشغيل الطائرة دولة التصميم دولة التصنيع وتتولى دولة موقع الحادث قيادة التحقيق، بينما تتمتع بقية الدول بحق المشاركة عبر تعيين ممثلين معتمدين وخبراء فنيين، دون أن يترتب على ذلك تقويض لسيادة الدولة المحققة.
يشكّل هذا التوازن أحد أنجح نماذج التعاون الدولي التقني، إذ يجمع بين احترام السيادة ومتطلبات السلامة الجماعية
رابعًا: الشفافية وكشف نتائج التحقيق وحدودها القانونية
يلزم الملحق (13) الدولة المحققة بإعداد تقرير نهائي يتضمن:
عرضًا للوقائع التحليل الفني الاستنتاجات توصيات السلامة ويُعد نشر هذا التقرير التزامًا دوليًا، غير أن الشفافية هنا ليست مطلقة. إذ يفرض القانون الدولي قيودًا على نشر بعض المعلومات الحساسة، مثل:
تسجيلات الصوت في قمرة القيادة الإفادات الشخصية للطاقم بعض البيانات الفنية التشغيلية، هذه القيود لا تُعد انتقاصًا من الشفافية، بل ضمانة لسلامة التحقيق ومنع إساءة توظيف نتائجه.
خامسًا: تطبيق عملي – حادث طائرة فالكون قرب أنقرة.
في ضوء الحادث المؤلم للطائرة طراز فالكون والتي تحطمت قرب أنقرة أثناء توجهها إلى طرابلس، وعلى متنها ضباط ليبيون ، تبرز أهمية تطبيق القواعد الدولية بعيدًا عن الانطباعات الإعلامية أو الاستنتاجات المتسرعة.
من الناحية القانونية البحتة:
تملك تركيا، بصفتها دولة موقع الحادث، الاختصاص الأصلي في قيادة التحقيق الفني.
تملك ليبيا، متى ثبت أنها دولة تشغيل الطائرة أو دولة ذات مصلحة مباشرة، الحق القانوني في المشاركة في التحقيق وفق أحكام الملحق (13)، وذلك عبر تعيين ممثلين وخبراء فنيين.
ولا تعني هذه المشاركة نقل سلطة التحقيق أو التدخل في نتائجه، بل تندرج ضمن إطار التعاون الدولي الإلزامي الذي يهدف إلى كشف الحقيقة الفنية وتحسين السلامة الجوية.
سادسًا: العلاقة بين التحقيق الفني والمسؤولية القانونية لا يحول التحقيق الفني دون:
فتح تحقيقات جنائية وطنية مستقلة عند الاقتضاء مطالبة الضحايا أو ذويهم بالتعويض وفق اتفاقية مونتريال لعام 1999 حق قائم ومشروع غير أن الفصل المؤسسي بين هذه المسارات يظل، في تقديري، شرطًا أساسيًا للحفاظ على نزاهة كل منها وعدم تسييس التحقيق الفني.
خاتمة..
يُظهر نظام التحقيق في حوادث سقوط الطائرات كيف استطاع القانون الدولي أن يطوّر نموذجًا متقدمًا للتعامل مع الوقائع ذات الطابع العابر للحدود، قائمًا على التعاون، والاستقلالية، والوقاية.
وأرى أن الالتزام الصارم بهذه المعايير، خاصة في الحوادث الحساسة، لا يخدم فقط مصلحة الدول المعنية، بل يحمي منظومة السلامة الجوية الدولية برمّتها، ويصون حق الضحايا في معرفة الحقيقة دون إخلال بالقانون.
رحم الله رجال الجيش الشرفاء وتقبلهم في الشهداء وألهم أهلهم وذويهم والشعب الليبي الصبر والسلوان وعوض الوطن فيهم خيرا .
* عضو هيئة قضائية
باحث في القانون الدولي العام.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية