حسام الوحيشي
حدثنا الأول فقال ” إنها لا تتواضع و أنا لا أسمح لنفسي بالرضوخ، أكتب هذا على الغلاف ”
و حدثنا الأخير قائلا ” هذه نصوص مهربة داخل صهاريج النفط و الرمال تحيطها ، لا تصلح للتداول العام في محطات البنزين ، تطبع بالروح لتصبح أحلاما منسية، لا تكتبها الحداثة إلا في المقبرة، ترهق الجموع و هي تصعد و تتعب الوغد في النزول، تحتاج بلادا فاخرة جدا او مدقعة بإفراط، و طغيانا لا يسمح لك بالشهيق إلا لماما ”
الملح والنخبة (1)
(الزمن منتصف يناير و المكان على المجرة )
يتردد الى المكتبة مرتين في الأسبوع، بعد بحث طويل ينتقي كتابا، يبدأ في زيارته يوميا، يمسكه بلطف شديد، يعانقه حتى ينعم بالدفء، يلعق صفحات ينتقيها بعناية وفق شروط : يجب أن تخلو من الأخطاء المطبعية، وتحتوي على كلمة لا يفهمها، و يعلوها غبار التداعي. هذه المرة، وقبل أن يباغته وقت الغذاء و يؤذن المسجد العتيق المحاذي لمخزن المعرفة، شخص في لفظ غريب على الورق ، في الصفحة 345. لفته الأمر فقام ٱليا بعد السطور ببطء. إنه “الخامس عشر”، ثم حسب الجمل: “الثانية من اليمين”. لمس الحروف، تحسسها بأصابعه، فكر: “كأنها بارزة قليلا”. تحركت شفتاه بها “الإسقيط” بصوت خافت، دار في باله: “لن تكون سهلة المنال”!
تواصلت خواطره : “أي نوع من المؤلفات يتضمن مثل هذه الألفاظ؟”. “تخيلت أني أراقبه حينها”: جسده الضئيل، ملابسه شبه الرثة، المفكرة الصغيرة التي تطل من جيب بنطاله”. راويان لقصة واحدة يتداخل بينهم المتن، لكنني لم أستطع الحياد. حضرت هواجسي وأنا أتذكر ما حدث ولا يمكن أن تغيب. لا تنسى أنها مخالب عقلي، انشب براثن ذهنك أيضا وأنت تقرأ. حواشي كثيرة لن تحظى بالتدوين. أنا محظوظ جدا، أبحر مع الأسرودة ويدانا المضمختان بالحبر في عناق. اقتبس عن العدم: “النص الوقح الذي يوقد فيه الراوي الكثير من الأسئلة سبيكة دم”. لست هنا لتطرح استفساراتك علي. سيجرح معي لسان لاعق النقحرة وينزف نيرانا تكفي لإشعال السهوب.
يزور صندوق بريده سبع مرات أسبوعيا، باكرا جدا في كل صباح. يفرغ ركوة تفور بالقهوة في كوب ورقي ويتأكد من علبة التبغ و القداحة الزرقاء و قلم الرصاص القصير. حزمة جديدة من الرسائل تنام داخل جوف حقيبة بلون الغيوم تتشبث بكتفه. يمر أمام بوابة المقبرة يقف ريثما يتلو آيات من الحكمة ودعوات جميلة حفظها من جاره العجوز. يضرب الأرض الطينية بنعل الحذاء وهو يمسح الدموع التي فرت من جروح في جمجمته.
طرد من الأكاديمية التي يدرس فيها الأنطولوجيا قبل ستة أشهر. الجميع يعرف السبب إلا هو. وحده لا يدري، أو هذا ما يبدو. يقينا لا أحد يعلم بشعوره الحقيقي أو يعرف حدود سقف مداركه فعلا. الرجل ظل غائما. كنت أعمل هناك عندما حدث كل شيء. الأطباء يتحدثون عن المكتبة والكتب بخوف ويتهامسون غالبا حولها. أطرقت السمع بينما هم في حجرة يناقشونه. تلصصت أيضا من طرف النافذة. كان يمسك بيدقا ومنديلا أحمر ويحركهما في الهواء. يذرع الغرفة ويكتب سريعا بإصبعه حروفا كلما توسط المنضدة الضخمة. يواصل الكلام و أصبعه المرفوع يشير للمكان الذي لامس فيه السطح الخشبي. المزيد من الغموض. تعبت من الخيبة. جلست على كرسي خشبي في الحديقة حتى مروا بجواري والقلق يصرخ من وجوههم. سارعت بالدخول إلى المبنى ومنه إلى الغرفة. وقفت محملقا في الطاولة. لقد قرأت أثر إصبعه على الغبار الخفيف. “الإسقيط”. جاء الصوت من الزاوية المظلمة.
– يا بني لماذا تريد أن تعرف؟
جربت أن أنبس بأي شيء، أن أصدر مجرد صوت، فحيحا كالذي كان يخرج من أفواه الأطباء في هذه الغرفة مثلا. حاولت بكل قوتي النطق. تجمد لساني كقطعة حطب.