محمد الهادي الجزيري
ثمّة حفرة تنتظرني في جهة ما، فم من أفواه الأرض الكثيرة، آه كم يعضني التراب ولا حبل أعتصم به، أيدي أموات هذي الملتفة حول ساقيّ، أم زهور وحشائش تجذبني إلى ظلمة الأسفل؟، حزني على فقدان الأحبّة كثيف، لكنّه عاقر، ليتهم يكذّبون النعاة ويتحلّقون بي في جلسة أبديّة.
كم هو ظالم حنيني إليهم وكم هو كافر، حنين من لا يريد قبرا ويهيم بسكّان قبور، حنين من يشيّع القوافل بعينيه دون اللحاق بها ..دون الرغبة في ذلك، أحبّهم، لكنّني لا أريد الهبوط إليهم، فلن أجد إلا رحى لا تشبع وممحاة لا تكلّ، في ورشة مفتوحة أبدا، حيث الطبيعة العمياء، تفتّت كلّ ما يسقط بين يديها، ثمّ تصنع من أجزائه المتناثرة أشكالا أخرى، أكاد أسمع أنين الأجزاء من وجع الانفصال وفظاعة التشوّه.
آه أيّها الكرسيّ، لعلّك كنت حجر أمّ رحيمة أو صدر أب كريم، وأنت أيّتها الطاولة، من يدري لعلّك من عظام عبيد وإماء، أو من خلايا عشاق نُحروا وأحرار حُشروا في فم من أفواه الأرض الكثيرة، آه كم يعضّني التراب ولا حبل أعتصم به.
أقفز وما بي من جنون وما في خرقي غيري، أمّا في خصوص علاقتي بالجنّ فهي طيّبة لأنّها منعدمة، كما أنّي لم أحظ بملاقاة الشيطان، أظنّه منشغلا عنّي بإغواء قبائل العرب والبربر ودعوة أحزاب اليمين واليسار إلى التّوحد في حزب واحد، ما دام الهدف واحدا: إذلال الإنسان.
أقفز كالكرة، تتقاذفني هواجس نشيطة وأهواء جامحة، ترضرض الجسد من عنف الركل وضراوة اللطم، وبهت غلافه من شدّة الاحتكاك وكثرة اللمس، تصدّع الدماغ، لكنّي لا أريد لهذه اللعبة الشرسة أن تنتهيَ، يا ويلي من يوم أفولك يا أمّي، فما من يد تمتدّ لترأب شروخي غير يدك الواهنة، وما من جسم أو موضع أثق به وأركن إليه إلا جذعك وظلّه يا أمّي.
ستسقطين يا شجرتي الهرمة، وليس لي ما أذرفه بعدك إلا الدم، جفّ البدن، احتلبته نساء خاويات وعصرته جنائز خلاّن لي، من أجلك أنت فقط، سأعنّف نفسي حتّى يؤمن بالجنّة، حنّة أضعها تحت قصعة غسيلك يا أمّي، أمّا أنا فسأواصل قفزي من موقد إلى آخر، موغلا في جحيم الفكر…هازئا من فكرة الجحيم.
أقفز لا لخوفي منه إذن، فأنا موجود قبل ” منذ ” وإثر ” بعد ” ، أنا عقل التراب ومادّته وأنا الزمن، أكلني أحد أجدادي يوم كنت ثفّاحة وقذفني أبي في جوف أمّي فاتخذت هذا الشكل إلى حين، في دورة الحياة الأبدية.
لو كان بيدي اختيار هيئاتي وأشكالي القادمة، لاخترت أن تكون أصابعي شموعا في خدور حفيدات حبيبتي، وقلائد عاجية تتدلى بين نهودهنّ، يتوارثنها أبدا، ولاخترت أن يكون وجهي وردة تطلّ من سياج، تقطفها خلسة طفلة عاشقة وتشمّها في ظلام حجرتها، تحت لحاف الرغبة، ويوم تجفّ تضعها في طيّات رسالة سريّة.
لو كان الأمر بيدي لاخترت الحلول في كلّ شيء جميل ونافع: في شجرة توت منحنية يطالها الصبيان وعابرو السبيل، في أرغفة ساخنة تقدّمها يد عابرة إلى بطون يسكنها الجوع، آه كم أودّ أن أصير مرّة واحدة حذاء جديدا، تنتعلني في يوم عيد قدما طفلة يتيمة، إن كان لي ذلك فلن أؤلم قدميها الرهيفتين، أنا الحذاء الجديد.
أقفز ملدوغا بأفكاري، دبّ السمّ في ذرات تلك التي من أمر ربّي، دبّ الشجن في حقول البدن وفي مطموراته العميقة، دبّ القيح في لحم الأوراق وذهب ببياضها الآسر، ها يداي الحانيتان تضعانها في فم النار، وتطلقان الأوراق البيضاء الباقية.
لا كتابة بعد الآن إلا على التراب وللتراب.