منصة الصباح

اسمه الزمن

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

لم أسمعُ من قبل بكاتب فرنسي اسمه “بيرنارد بيفو.” ولن أعتذرَ عن عدم معرفتي به، أوعدم اطلاعي على كتبه. الكُتّاب والمؤلفون يزدادون عدداً، وذاكرتي تزداد ضيقاً وتبرّماً بهم وبغيرهم. وأعدادُ من لا أعرفهم أو أسمع بهم منهم تزيد أضعافاً مضاعفةعمن أعرف.

ذلك الصباحٌ، وأنا أتصفّحُ، في جهاز حاسوبي، مواقع التواصل على الانترنت، وقعتُ صدفةً على صفحة باسم شاعرة ومترجمة عربية، من بلدان المغرب العربي، اسمها بثينة هرماسي. نشرت على صفحتها ترجمة لأسطر قليلة للكاتب المذكور أعلاه. قرأتُها فأعجبتني. سِرُّ أعجابي نابعٌ من حقيقة أنني وجدت قاسماً مشتركاً يجمعني وكاتبهت: رفض الاعتراف بالشيخوخة.

كنتُ، إلى زمن قريب، أظنني مجنوناً، بعنادي على رفض الاعتراف بأنني لم أعُد شابّاً. وكنتُ، في الوقت ذاته، على وعي بأنني لست الوحيد في ذلك. خلال سنوات عمري، رأيتُ كثيراً من المجانين أمثالي يعومون عكس التيار. أحدهم، كان سائق عربة حصان(كروسة) اسمه حامد. وكان قبضاي مشهوراً في المدينة القديمة. في آخر أيامه، رأيته بأم عيني في شارع الباز، يجري ثملاً وراء شباب صغار، صارخاً ومهدداً، من دون ذنب اقترفوه، سوى أنّهم لم يكونوا شهوداً على مرحلة فتوته، وفاتهم أن يعرفوا من كان.

مسكين حامد. كان يظنُّ أن فتوته ستدوم الدهر كله، وستحظى بالاعتراف من كل الأجيال. ونسي أن الزمن كان يقتفي خطوه، ويسرق فتوته وشبابه في غفلة منه، ويحيله إلى أسد عجوز، بلا أسنان أو أنياب، يستحق الشفقة.

“بيفو” يقول:” مقاومة الشيخوخة تعني قدر المستطاع ألا تتنازل عن شيء.” ويبدو أن حامد الكرارسي، في آخر عمره، كان يطبق تلك النصيحة، من دون أن يسمع بكاتب فرنسي اسمه “بيرنارد بيفو.” الفرقُ الوحيدُ ربما هو أن حامد الكرارسي كان لا يقاوم الشيخوخة، بل كان يحاربها. ظل يخرج ثملاً من بيته كل يوم مهدداً متوعداً من يجده من الشباب في الشارع، ويلاحقهم جرياً وشتماً وتهديداً بالقتل. وكان الشباب يهربون من أمامه ضاحكين ومشفقين. كانوا صغاراً لكن لا ينقصهم النضج العقلي، ويعاملونه على “قيس عقله.” وحامد، في حقيقة الأمر، فقد عقله، لأنّه أدرك مؤخراً أنّه خسر معركته ضد الزمن، ولم يقبل الهزيمة. عند تلك النقطة بدأت أزمته.

“بيفو” يحثّني على ضرورة ألا أتنازل عن شيء: “لا عن العمل، ولا السفر، ولا عن مشاهدة العروض، ولا عن الكتب، ولا عن الاستمتاع بالطعام، ولا عن الحب، ولا عن الأحلام.” ويحثني على مواصلة التفكير في المواعيد الجميلة!!
هل فقد “بيفو” عقله، من جراء خسارة معركته ضد الزمن، كما حدث مع الكرارسي حامد؟ لا أشك في ذلك. “بيفو” ليس سوى رقم آخر، يضاف إلى سلسلة طويلة جداً من الخاسرين في حروبهم ضد الزمن. الزمن هو البطل الوحيد الذي لا يخسر معركة أو حرباً، ولا يبالي مطلقاً بمن يختارون مواجهته وتحدّيه.

أنا في حقيقة الأمر لست مثل حامد الكرارسي. ولا أجسر على فعل ما يدعو إليه “بيرنارد بيفو.” أنا رفعت الراية البيضاء طوعاً منذ زمن. وعلاقتي بالشيخوخة تتسم ببرود. فأنا، رغم استسلامي أمامها، أحمل لها في قلبي كراهية شديدة، ولا أطيقها. لكنّي أحاول قدر الإمكان التظاهر باللامبالاة.

حامد كان أكثر جرأة مني. و”بيفو” كان أكثر شجاعة. الإثنان، في رأيي، ينتميان إلى فصيلة مقاتلين نادرين. لا يهربون من مواجهة، ولا يرفضون تحدّياً، حتى وإن جاء من خصم لم يُهزم مطلقاً في كل معاركه وحروبه، اسمه الزمن.

شاهد أيضاً

شكشك يؤكد على ضرورة ضبط الانفاق العام خلال لقاء الدبيبة

بحث رئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ملاحظات …