منصة الصباح
د. مجدي الشارف الشبعاني

ازدواجية التعاطف الإنساني … من جيسيكا إلى غزة

شهد العالم مؤخرًا موجة تعاطف واسعة مع قصة الشابة جيسيكا التي قضت نحبها إثر هجوم حوت أوركا أثناء ممارستها لأنشطة بحرية. القصة غزت وسائل الإعلام الدولية، وتصدرت عناوين الصحف، وتحوّلت إلى رمز للتراجيديا الإنسانية، رغم أن الحوت الأوركا حيوان مفترس بطبيعته، وأن جيسيكا كانت تدرك المخاطر منذ اللحظة الأولى.

لكن في المقابل، نجد أن المأساة الإنسانية الأكبر في غزة، حيث يُحاصر أكثر من مليوني إنسان تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويُمنعون من الغذاء والماء والدواء، لا تحظى حتى بقدر يسير من التعاطف أو الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به جيسيكا.

بدا واضحا ان ما حدث يتعلق بفن صناعة القصة الإنسانية فالإعلام الغربي برع في صياغة قصة جيسيكا وفق نموذج human-interest story، الذي يعتمد على ثلاث مقومات :صورة واضحة للضحية.وسرد شخصي وعاطفي وتجنّب أي تعقيدات سياسية.

بهذه الطريقة، تُستثار مشاعر الجمهور، ويتحوّل الحدث إلى موجة تضامن عالمي.

أما غزة، فقضيتها تُقدَّم في الإعلام ذاته عبر عناوين سياسية باردة مثل: “نزاع” أو “اشتباكات”، ما يجرّدها من بعدها الإنساني الفوري.
ومن هنا نركز على التحيّز والانتقائية فجزء كبير من الإعلام الغربي يخضع لتأثيرات سياسية واقتصادية، من بينها جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ما يؤدي إلى تغييب أو تشويه السردية الفلسطينية.

وبدلًا من عرض صورة الطفل الذي يموت جوعًا، يُقدَّم المشهد في إطار “إجراءات أمنية إسرائيلية”، وهي صياغة تُخفف وقع الجريمة وتُحوّل المجرم إلى طرف مشروع في “نزاع”.

غزة وسلاح التجويع ورغم صراحة النصوص ، مثل نص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، يُعدّ استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين جريمة حرب.

كما وثّق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تقريره لعام 2024 أن الحصار المطبق على غزة ومنع وصول المساعدات الأساسية يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية.

لكن هذه الحقائق لا تجد طريقها إلى صدارة النشرات، ولا تتحوّل إلى قصة “إنسانية” تجتاح الرأي العام.

الواقع يؤكد ان هناك انحياز نفسي وثقافي

فعلم النفس الاجتماعي يوضح ما يسمى بـتحيّز الجماعة الداخلية (In-group bias)، حيث يتعاطف الناس أكثر مع من يشبههم ثقافيًا أو لغويًا أو عرقيًا.

وبينما تُرى جيسيكا كجزء من “العائلة الثقافية” للجمهور الغربي، يُقدَّم الفلسطيني غالبًا عبر خطاب أمني يربطه بالعنف، مما يضعف التعاطف معه.

فالقضية ليست أن العالم لا يعرف ما يجري في غزة، بل أن القصة تُمنع من أن تُروى بالأسلوب الذي يفتح القلوب قبل العقول.

إن مأساة جيسيكا مأساة إنسانية فردية، لكن مأساة غزة مأساة شعب بأكمله، يحاصره الاحتلال ويمنع عنه مقومات الحياة، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي، وسط صمت دولي يفضح ازدواجية المعايير الإنسانية

بقلم: د. مجدي الشارف محمد الشبعاني

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

أبيض وأسود

جمعة بوكليب زايد…ناقص روايةُ “المتعاطف” للكاتب الفيتنامي الأميركي فييت ثاناه نجوين-Viet Thanh Nguyen رواية مميزة …