منصة الصباح

إيطاليا… حين تُختطف الأمومة باسم “القيم الأوروبية”

إيناس احميدة

تُبرّر الحكومة الإيطالية الكثير من أفعالها تحت شعار “المصالح الإيطالية”، لكن أي مصالح هذه حين تمتدّ يد الدولة إلى حضن أمّ، فتسلبها طفلَيها بحجة “الاختلاف الثقافي والديني”؟

في بلدٍ يُفترض أن يرفع شعار حقوق الإنسان، تُمارس انتهاكات ناعمة، تتوارى خلف القوانين الاجتماعية وعبارات الحماية والرعاية..

القضية التي نكشف عنها اليوم ليست مجرد حادثة عابرة، بل جريمة إنسانية تمسّ هوية الطفل الليبي، وتمتحن موقف الدولة الليبية أمام واجبها في حماية مواطنيها خارج الحدود..

منذ أكثر من عام، تعيش عائلة ليبية مأساة صامتة في إيطاليا.. حيث تصارع أمٌّ ليبية في المحاكم الإيطالية لاستعادة حضانة طفلَيها “دون سنّ الثامنة عشرة”، بعد أن قررت السلطات هناك سحبهما منها، مستندةً إلى تقارير اجتماعية غير دقيقة، تتحدث عن “تشدّد ديني” و”أسلوب تربية محافظ”..

الأب مقعد بعد إصابته بجلطة دماغية، والأم تناضل وحيدة أمام دولة تتعامل مع الثقافة الليبية كخطرٍ ينبغي عزله عن أطفالها..
ورغم المراسلات الرسمية، التي وجّهتها إدارة شؤون القنصلية في وزارة الخارجية الليبية إلى السفارة الليبية في روما مطالبةً بالتدخل العاجل، لم يُسجّل حتى الآن أي تحرك ملموس لوقف إجراءات التعسف مع الطفلين الليبيين ليكونا طفلين متبنيين من اسرة إيطالية غريبة عنهما.

هذا الصمت الدبلوماسي يُضاعف الألم، ويحوّل القضية من شأنٍ عائلي إلى قضية كرامة وطنية..

فتاريخ إيطاليا في ليبيا ليس بعيدًا عن ذاكرة الليبيين،

ولازلنا في “26” أكتوبر من كل عام، نستعيد ذكرى المنفيين الليبيين إلى جزر إيطاليا خلال فترة الاحتلال الفاشي، حين اقتُلعت العائلات من جذورها، ونُزعت منها إنسانيتها باسم “التحضر والتمدن”..

واليوم، تُعيد بعض المؤسسات الإيطالية إنتاج هذا المشهد في شكلٍ جديد: انتزاع الأطفال من أسرهم بحجة الاندماج الثقافي..

إنها الذاكرة ذاتها، وإن تغيّرت أدواتها..

إيطاليا التي تقدمت بالاعتذار عن جرائمها الاستعمارية، لا يحق لها أن تُنصّب نفسها وصيًّا على أطفالنا، أو أن تدّعي أنها أقدر من أمهاتهم على تربيتهم وتعليمهم.. فنحن قد نغفر لكننا لا ننسى.

نعم لكل دولة قوانينها ونظمها، ولكن لا قانون يبرر سلب أطفالٍ من أمهم بسبب دينها أو ثقافتها أو لغتها..

حيث تستند السلطات الإيطالية في مثل هذه الحالات عادةً إلى المادة 403 من القانون المدني الإيطالي (Codice Civile)، التي تتيح للسلطات المحلية أو للشرطة الاجتماعية سحب الأطفال مؤقتًا من أسرهم عندما ترى أنهم يعيشون في “ظروف خطرة على صحتهم أو تربيتهم الأخلاقية”.

لكن هذه المادة، التي وُضعت أصلاً لحماية الأطفال من الإهمال والعنف، تُستخدم أحيانًا بصورة فضفاضة ومسيّسة، خصوصًا حين تتعلّق بأُسرٍ أجنبية أو مسلمة، حيث يُفسَّر “الخطر الأخلاقي” على أنه اختلاف في القيم الثقافية أو الدينية.

وقد انتقدت منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية (Amnesty International) وجمعية الدفاع عن الأسرة في أوروبا (ADF International) توظيف هذه المادة في حالات مشابهة، مؤكدة أن “الاختلاف الثقافي لا يُعد خطرًا أخلاقيًا”.

ومن ثمّ، فإن أي تطبيق للمادة 403 يجب أن يكون مبرّرًا بأدلة مادية واضحة، لا بانطباعات ثقافية أو دينية، وإلا تحوّل من أداة حماية إلى وسيلة قمع وتمييز ضد الأسر المهاجرة والمقيمة.

ووفقًا لـ اتفاقية حقوق الطفل “1989”، ولا سيما المادة “8”، يحقّ للطفل الحفاظ على هويته وجنسيته وصِلاته الأسرية دون تدخل غير قانوني..

كما تنصُّ المادة “30” على أن للأطفال المنتمين لأقليات دينية أو ثقافية، حقّ ممارسة ثقافتهم ودينهم بحرية..

أما المادة “9” من الاتفاقية، فتمنع فصل الطفل عن والديه إلا في حالات الضرورة القصوى، التي تقتضيها مصلحته المباشرة — لا بناءً على افتراضات ثقافية أو دينية..

لكن ما يجري في هذه القضية يُخالف هذه النصوص بشكلٍ واضح، ويمثل انتهاكًا صريحًا لسيادة ليبيا على أبنائها..

من هنا.. أوجّه نداءً إنسانيًا عاجلًا إلى:

– السيد “عبد الحميد الدبيبة“، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، لاتخاذ موقف رسمي واضح أمام الحكومة الإيطالية، وإلزام السفارة بمتابعة الإجراءات القانونية فورًا..

– السيدة “وفاء الكيلاني“، وزيرة الشؤون الاجتماعية، المسؤولة الأولى عن الحماية الاجتماعية في ليبيا، لتبنّي هذه القضية كملف إنساني وحقوقي، يمسّ جوهر عمل الوزارة في صون الأسرة الليبية أينما كانت..

– الدكتورة “حورية الطرمال“، وزيرة الدولة لشؤون المرأة، لتبنّي القضية كملف حقوقي وإنساني، يُعنى بحق الأم في الحضانة والكرامة..

– والسيد “مهند يونس“، سفير ليبيا في روما، بتفعيل الدور الدبلوماسي الواجب تجاه أبناء بلده، وتوكيل محامٍ مختص فورًا للطعن في قرار التبنّي قبل أن يصبح نهائيًا..

فالصمت هنا ليس خيارًا..

والقضية تمسّ كل ليبي في الخارج، وكل أمّ تخشى أن تُحاسب على ثقافتها أو عقيدتها..

إيطاليا مُطالَبة بتصحيح مسارها، وليبيا مُطالَبة بالدفاع عن أبنائها بكرامة وشجاعة..

فالأم الليبية لا تُدان لأنها متمسكة بدينها،

ولا يُنتزع منها أطفالها لأنهم يشبهون وطنهم..

المراجع القانونية

اتفاقية حقوق الطفل (1989) – الأمم المتحدة، مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR):

 

شاهد أيضاً

مجلس الأمن يتبنى قراراً يدعم "الحكم الذاتي المغربي كحل أمثل للصحراء الغربية

مجلس الأمن يتبنى قراراً يدعم “الحكم الذاتي المغربي كحل أمثل للصحراء الغربية

اعتمد مجلس الأمن الدولي قراراً تاريخياً يدعم فيه خطة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب كحل …