نافـــذة
بقلم : محمد الهادي الجزيري
مشكوك فيه دائما لأنه غريب وقبيح
لا تولد قبيحا … لرجاء عليش
قلة قليلة منا لا تجحد فضل الله ويوجد من لا يعرف فضل الله ومنة الطبيعة عليه ..، يولد ويكبر ويشيخ فيموت دون أن يحس بما شعر به الكاتب المصري رجاء عليش ..، فمعضلته دمامته في وجهه ، وقد حاول مرارا أن يكون فردا متزنا في المجتمع .. ولكن هذا الأخير يرده نظرا لقبح خلقته، وكان أن انتحر سنة 1979 تاركا خلفه كتابين : « كلهم أعدائي » و « لا تولد قبيحا » .. وبيننا اليوم كتابه الأخير .. فلنوغل فيه لنشعر قليلا بما عاناه الكاتب جراء عاهته …
– قال: أصف لكم نفسي:
أنا رجل بلا امرأة .. بلا حقل للقمح.. بلا زجاجة نبيذ.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة… بلا طريق للمستقبل.
على قبري ستكتب العبارة الآتية:
هنا يعيش إنسان مات أثاء حياته .
أنا رجل تتبعه الضحكات والكلاب .. ضحكات الناس ودعوات الكلاب.. أنا ملك يرتدي ثياب صعلوك.. مفكر يلعب بدمية طفل صغير.. مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوى فالطبيعة قد وضعته هناك وألصقته جيدا ليبقى إلى الأبد. «أنا أفكر كأنني أحلم وأحلم كأنني أفكر» في مجموعته القصصية لا تولد قبيحا، يتناول رجاء عليش مسألة القبح التي كانت لصيقة به منذ حل بيننا، يرويها على لسانه وعلى لسان شخصيات كثيرة لا تدرك المجموعة فيها إلا الظاهري منها ، تسخر وتتهكم ولا تعي حجم الأثر السلبي الذي تتركه في العابرين الذين يتعذبون بيننا ولا نستطيع أن نراهم كما يتوجب علينا أن نرى .. لو كانت نظرتنا للحياة مغايرة، ولو كانا نرى الإنسان كذات أكثر مما نراه كشكل، لو نغوص أكثر في أعماقنا ونتصالح مع القيم والأذواق المتوارثة، ربما كان عليش)) سيعيش حياته بشغف أكثر، ودون خوف من الآخرين المتحرشين بذاته والراغبين بلا سبب واضح في إيذائه وعزله.. هكذا استهل الكاتب مقدمة لا تولد قبيحا هذه صفحات عن أغرب مشكلة في حياتي.. مشكلة القبح.. يمكنك أن تتخيل أغرب رجل في العالم.. أقبح وجه يمكنك أن تصادفه في أي مكان على الأرض لتتأكد أنك تراني أمامك .. الأضحوكة الدائمة، الغرابة .. أنا دائما الأغرب … الأفظع .. الأقبح .. ربما كان بإمكان الحب أن ينقذه من مخالب المجتمع الذي قسى عليه ورفضه دون أن يعلم ما حقيقة ذاته وما يخزن من أحلام وآمال وحب وكره، مثلنا جميعا، ولكن الحب أيضا لم ينصفه، إذ كتب عليش، في مجموعته القصصية متحدثا عن نفسه:
أنت لطيف ككرسي حمام.. ظريف كسيجارة بعد الغذاء.. لذيذ ككوز ذره مشوي .. مسلي كببغاء أربيه في المنزل ويقول لي نكت لطيفة طول الوقت… طيب كقط حنون يتمسح في ساقي ويقفز فوق حجري … أنت مثل أخي تماما… هذا ما تقوله النساء لي دائما.. ولعلنا حين نتقدم في قراءة الكتاب، نفهم أن الحب أيضا قد يعجز عن إنقاذ شخص يحاكمه الناس كل يوم بلا ذنب، فقط لأنه مختلف عنهم وفقط لأن قواعد ومعايير الجمال تصنفه بالقبيح، ففي قصة – القبيح والناس – نجد تدخل المجتمع وتحكمه في سلوك الفرد إلى درجة قدرته مع الوقت على تحويله من شخص يحب الحياة ويتدرب برفقة فتاة جميلة على عزف البيانو لدى أستاذ ايطالي، إلى قاتل متوحش يكره الجميع ويرغب في الانتقام من الإنسان الذي كان دائما مصدر وجعه واغترابه. في هذه القصة وفي كل القصص الأخرى نقرأ عن القبح الذي صنعناه وتوارثناه، فجعلنا -عليش» ومن يعيش مأساة تشبه مأساته يسقط بمثابة قربان من أجل أن يحس الآخرون بأنهم الأقوى أو الأجمل، ولهذا السبب بالذات وجب علينا أن نفكر جيدا، مع الكاتب، في معنى الجمال ومعنى القبح، وفي المرات الكثيرة التي تسببنا فيها في موت أحدهم دون أن نكون على علم بذلك.. يقول (عليش) ساخطا على دمامته… وعلى الإنسانية جمعاء :
« إحدى ميزات الوسامة الشديدة .. أن يصدقك كل الناس بينما أنت تكذب، أما الإنسان القبيح المكروه من كل الناس فإن أحدا لن يصدقه حتى ولو قال الصدق، إنه متهم من كل الناس بالكذب .. مشكوك فيه دائما لأنه غريب وقبيح” .