إمتداد بودكاست
جمعة بوكليب
في زمن الثورات، يتغير فجأة ايقاع الواقع اليومي، على نحو ملحوظ، وبسرعة عالية. وفي ذات الوقت، يغيب العقل الجمعي مؤقتاً، و تسود روح جديدة أشبه بروح القطيع، وقد انفلت. ومن تاثير الصدمة، يبدو الناسُ سُكارى وما هم بسُكارى.
قبل اندلاع شرارة ثوراث الربيع العربي في ديسمبر عام 2010، كنت وصديقي الكاتب غازي القبلاوي نواظب أسبوعياً على تقديم برنامج في الانترنت، بعنوان “امتداد بودكاست.”
البرنامج، لحسن الحظ، لاقى قبولاً وأنتشاراً طيبين، واستقطب إليه مستمعين من البلدان العربية، وخاصة في دول الخليج، رغم أن المستمع الليبي كان، في الأساس، المستهدف من البرنامج. ولدى قيام ثورات الربيع العربي، قدمنا عدة حلقات مميزة، ثم قررنا، غازي وأنا، التوقف حتى تهدأ الأوضاع، وتعود الدنيا إلى سابق ايقاعها الهاديء. إلا أن الأوضاع لم تعد إلى ما كانت عليه، ولم نعد نحن أيضاً إلى مواصلة البرنامج. وفي الفترات الأخيرة، حاول غازي استمالتي إلى العودة، إلا أنني كنت مصاباً بتردد واضح المعالم.
مبعث ترددي هو أن مياه كثيرة، خلال السنوات الماضية، جرت تحت الجسر. وأن العالم في عام 2011، الذي يعلّم لتوقف البرنامج، ليس نفس العالم في عام 2023. أهم التغيرات أن برامج البودكاست، منذ أكثر من عشرة أعوام مضت، كانت جديدة، وغير معروفة كما هي الآن. وكنّا نحن، حسب علمي، من أول الرواد في السوق العربية. وحالياً، ازدحمت السوق ببرامج بودكاست من كل اللغات، وفي كافة فروع الثقافة والسياسة وغيرها. ولكي نعود الأن، علينا أن نبدع بودكاست يختلف شكلاً ومحتوى، كي نتمكن من المنافسة واستقطاب مستمعين.
النقطة الثانية هي أننا فقدنا جمهورنا من المستمعين، وأن ذلك الجمهور بطبيعة الحال قد تم استقطابه من قبل برامج بودكاست أخرى. فكيف يمكن استرداده؟ والأهم، أن جيلاً ليبياً وعربياً على علاقة وثيقة جدا بالتقنية وبالانترنت قد كبر خلال تلك الفترة، واضحى سيد الميادين. وأننا وإن كنّا على التصاق بالواقع، إلا أننا لا نعرف الجيل الجديد، ولا نستطيع أن نقرأ عقله، ونبني جسوراً للتحاور معه، فما بالك بالاقتراب منه وجدانياً وثقافياً وأدبياً. أضف إلى ذلك ما حلَّ بالساحة الثقافية من أحداث. وما حلَّ بنا، غازي وأنا، من تغيّرات ليس أقلها تقدمنا في العمر. وعلى المستوى الشخصي، صرت أنا في وضع معيشي أقل مما كنته في تلك السنوات، بسبب إحالتي على التقاعد. ولم يكن أمامي سوى التعيش من كتابة المقالات في الصحف. لذلك، حين اقترح غازي العودة إلى نشاطنا البودكاسي، أسعدتني الفكرة من حيث المبدأ، لكني وجدت أنها فعلياً مازالت غير قابلة للتنفيذ، مالم يتوفر مقابل مالي لنا.
القنوات والاذاعات الليبية والعربية الحكومية والخاصة تنفق الملايين من الدينارات على برامج الطهي والسياسة وبرامج دينية بنزعة سلفية جامدة، ولا تهتم مطلقاً بالثقافة وبنشر الوعي. وبرنامج ثقافي مثل برنامجنا “امتداد بودكاست” لا يأتي وَحْيَاً، بل يتطلب وقتاً وبحثاً ونقاشات وإعداداً. وتقديمه مجاناً لارضاء هواية تسكننا لم يعد ممكناً، لأننا، غازي وأنا، لم نعد هواة. وما نقدمه من مواد ثقافية، يستحق أن يعامل معاملة مهنية ومالية تليق به.
يرى غازي أن الحصول على مقابل مالي مقبول لقاء بث البرنامج أمرممكن. ولا أعرف كيف سيتدبر ذلك، ومن أين؟. وفي آخر لقاء جمعنا، في الأسبوع الماضي، أقنعني غازي بضرورة العودة بالبرنامج. ثقتي بغازي جعلتني أوافق. السؤال الآن، هل يعود البرنامج زعلى نسقه المعتاد، أم علينا معاً البحث عن شكل ومحتوى مختلف؟