عبد الحكيم كشاد
من حقل التجربة الميدانية، وتعدد العينات التي تخضع للفحص والمعالجة، تنطلق دائمًا الدراسات الجيدة . بعض الكتب التي تحوي هذه الدراسات، تُعد دلالة في حقل موضوعها مهما تقدم الزمن، وكتاب(تعليم المقهورين)إحدى هذه الكتب التي تعالج ظاهرة الاستبداد بين حاكم ومحكوم، والتي ترينا كيف يتحكم القاهر في المقهور، وهي علاقة طردية بينهما، وأسباب تعلق المقهور بالقاهر في تنشئة هي الأخطر على الطرفين، قبل أن تكون على المقهور ، القاهر بزوال سلطته لا ينتهي أمره، لتبدأ معطيات ما تربى عليه المقهور ،لإنتاج إعادة نفسه في صورة قاهره، حتى تصبح الصورة وجهين لعملة واحدة .. نفكر كثيرًا في الدكتاتوريات التي مرّت بكل أدوات حكمها ،وكيف أثّرت على ذلك المواطن البسيط، الذي دُجّن في آلية حكم ،ظلت تطارده كعقدة لم يستطع الفكاك منها، ليست هي مفاهيم بقيت بقدر ما هي ظلال تنشئة استمرت حتى بعض زوال الطاغية، فهي إذًا رواسب سنوات تربية قد تنتج صورة القاهر في المقهور، وتظل اللعبة نفسها لعبة التسيّب، وإنتاج العنف الذي يتوالد بنفس الآلية ، وأجزم أن علاقة القاهر بالمقهور هي حفريات التربية الأولى، إذا ما استطعنا أن ننقّب في الروح التي تظل مع عدم جاهزيتها للحرية ، لا تزال ترسف في ظل إرث الأغلال ، مما يجعل الحرية عبئًا هنا، وليس منطلقًا إلى حياة جديدة أخرى .. بحيث تتحوّل الحرية إلى نشيدٍ جميلٍ على ألسنة سجناء الذات ! وتُعد هذه التربية بمثابة حفر في العلاقة بين القاهر والمقهور، بين من لديه السلطة المطلقة، وبين ذلك القابع تحت طائلتها بكل أصناف قمعها . وجهان لا يلتقيان إلا كسجين و سجّان ومع ذلك يتماهيان لإعادة إنتاج ذات المنجز، وبنفس الآلية في النهاية. تكمن أهمية ما يطرحه هذا الكتاب من أفكارٍ في العلاقة الجدلية بين القاهر والمقهور، الحاكم والمحكوم، تحت ثنائيات تشكّل منذ الأزل وجه السلطة بينهما وتقع الحرية كحلمٍ إنساني نبيل بين المطرقة والسندان.
أزمة المقهورين
هو نوع من التعليم أُرِيدَ للمقهور أن يتدرّب عليه لكي لا يعبر في نهاية النضال نحو الحرية والانعتاق صورة أخرى تربّى عليها من قاهرٍ عاش يرسف تحت نير عبوديته، وأصبح مثالا لا يرى غيره وهو الخوف الأكبر الذي يعيش معه طوال عهود التسلّط والقمع وظل قابعًا هناك دكتاتورا صغيرا لا يُلمح ، يظل لابدا هناك يتغذّى على دم صاحبه حتى يخرج !