منصة الصباح

إطلالة على جنّة الذئب

 

بقلم /محمد الهادي الجزيري

في هذا الموعد ..سأطلعكم على مقطع قصير من روايتي ” جنّة الذئب ” الصادرة سنة 2010 بتونس، ولم تأخذ حظّها من الانتشار على الجمهور الشاسع ..إذ تزامن صدورها مع انبثاق الثورة التونسية ..على كلّ سيتكفّل بإعادة خروجها للناس في حلّة جديدة , الصديق العزيز شوقي العنيزي في دار مسكيلياني للنشر …

الحقّ أقول لكم :
لَكَمْ كان سروري عظيما وأنا أعاين الدمار الشامل الذي حاق بعشّ الزوجية، ليس شماتة في زوجتي، بل من فرط ابتهاجي بالحريّة المطلقة المتاحة لي، فلا بيت أنوب إليه كلّ مساء، حمارا يتهادى إلى إسطبل، ولا مواعيد رهيبة مع فواتير الماء والكهرباء والهاتف، كما أنّي لن أحمل قفّة بعد هذا السطر، والأهمّ من كلّ ذلك أنّني لن أسدّد بقيّة القرض للمغفور لها جمعية صيانة المدينة،… يا للروعة … لا مواقيت منذ اندلاع الحفلة العالمية وحصول بيتي على قسطه من الكرم الإنساني، لا مواقيت للنهوض والفطور والغداء والعشاء ولأداء الواجب العاطفي، ولا باب أشرعه لغزوات الأصهار والأقارب وكلّ من هبّ ودبّ لتمتين صلة الرحم وعروة الجيرة وحبل الصداقة… طزْ
ــ أهلا وسهلا ومرحبا … كيف الحال؟
ــ الحمد لله
ــ والعشيرة والقبيلة؟
ــ الكلّ يسلّمون عليك وسيزورونك تباعا
ــ والشعب والأمّة؟
ــ بخير ومشتاقون إليك
ــ تفضّلوا بالجلوس، سأغضب كثيرا إن تقاعستم عن شفط عصيري وقهوتي وشايي…
ــ ههههههههههههههههههههه
ـــ مدّوا أيديكم رجاء، كلوا واشربوا (من رزقي) وتمدّدوا حيث تشاؤون، ورجاء … رجاء دعوا أطفالكم البهيّين يلعبون بحريّة (دعوا لقطاءكم يعبثون بكلّ شيء)، دعوهم يعبثون حتّى بالكتب… نعم الكتب ( أخرجوا من عزلتي يا مغول، أضاقت بكم الممالك القديمة والحديثة؟ !، أليس لكم حيوات خارج حياتي الواحدة ؟ !)… إلى اللقاء… بالله بالله بلّغوا سلامي الحارّ إلى أمّهاتكم وآبائكم والجميع الجميع ( كلّ من تخلّفوا عن الغزوة)، لا تطيلوا الغيبة فقد أدمنت ظرفكم وخفّة دمكم وشيطنة أبنائكم الرائعين… مع السلامة… ( إتفووه … يا خضرة الدمن … إتفووه ).
يا للروعة، لا شاي ولا سوائل حلال، ولا مسامرات سامّة في حضرة التلفاز المقدّس، فقد تهشّمت سحنته وتناثرت أحشاؤه في ملكوت التراب، ولا مصدر للحقيقة إلاّي منذ الآن.

إنّها الحرّية يا ذاتي الحبيبة، هنيئا لنا بها، ترنّمت بهذه الجملة العذبة طوال تجوالي في الخراب المحيط، الخراب الباذخ الباهر المكوّم في الجهات الأربع، وليمة ، ضخمة معدّة بعناية بالغة وذوق رفيع وحسّ رهيف، مرّت بي شموس وأقمار عديدة، وأنا أتنزّه في جثّة ما سُمّي كذبا وبهتانا بالحضارة، وإنّي أجزم أنّ الحفلة الأخيرة حقّقت المبتغى وأنهت المهزلة، إذ لم يقطع شرودي حارس، ولم يعكّر صفو تأمّلاتي ناقد، كما لم تسقط على دماغي المنتشي طائرة استكشاف مثلا أو قذيفة أو غراب أو لعنة، وحتّى يطمئنّ قلبي العزيز، تسلّقت أعلى أكوام الدمار في هضبة القصبة، وتسمّرت هوائيّا جاهزا لالتقاط آخر حشرجات الكوكب المصهود، وكلّلت وقفتي الطويلة بعواء الفرح، إذ لم تعكّر مزاجي أنّة طفل عراقيّ واحد، ولم تزعجني صرخة طفلة مغتصبة في ملهى شرقيّ أو غربيّ، أو شارع خلفيّ من شوارع الغابة المحروقة، لم تفتّت ذاتي العظيمة قنبلة توراتية، ولم يدمغني حجر طائش من كفّ طفل فلسطيني لم تصدر حركة ولا دبيب من الأرض وكواليسها، لم تعلق بأذنيّ مثلا، ضجّة أطفال الأنفاق في رومانيا، ولم تصدّع رأسي الهامّة، معاول الأجساد الضئيلة الموغلة في مناجم الوهم، لم يشوّش تناغمي الداخلي نباح ولا صياح ولا نواح ولا نداء استغاثة، سقط القاتل والقتيل جنبا إلى جنب، وهمد الأطفال المربكون المزعجون في صحاري التيه ومخيّمات العودة، همدوا في أكواخ آسيا وبيوت قصدير أمريكا الجنوبية ومواخير الكوكب الغارق في لهب بديع ودخان أنيق.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …