محمد الهادي الجزيري
تجربتي في الكتابة الشعرية تعتمد أساسا على الأوزان الخليلية ..، باستثناء بعض النصوص النثرية ..، منها هذا النص المنشور في الجزء الثاني من كتابي ” أرتميدا ” ، ويسرني أن أعرضه اليوم عليكم ..، ففيه شعريّة أخرى نادرا ما جرّبتها ..، عنوان القصيدة ” النصّ البحري ” ..
�الآخرون غطّاسون هواة ومرتزقة، أمّا أنا فسفينة غريقة، حطامي يهذي باسم ملاّحي المليح، وكنوزي تقنّعت بالرمل والطحالب وأدمنت شرب الملح، دون أن تتفتّح على البحر…�قديما كانت لي موانئ ودفتر مواعيد وجرار طافحة بالحبر والخمرة والشهوة، كانت الصباحات أشرعتي المتجدّدة، والرياح نساء الصدفة، لم يفاجئني نهار في ميناء وما عاقني ليل عن الإسراء، ما كانت لي مرساة غير الدهشة، فيا كيف … يا كيف أغواني الملاّح الأسمر وأنا الغواية ذاتها؟….�كم ضجّت شباكي بأسماك الزينة وتمسّحت بي أمواج ونوارس، كم شرب أنخابي بحّارة ويا كم تشبّثت بقلوسي موانئ، كنت الحريّة في شكل سفينة، صحوي إرباك للبحر وإغفاءتي هدنة خاطفة، أستنفر فيها الأحلام وأجدّد الخلايا، فكأنّ البحر حرّض عليّ الملاّح الأسمر، ليطغى الهدوء وتستشري السكينة…�نعم أنا الغواية ذاتها، لكنّ الأسمر ربّ الغواية والسحر والفتنة والقتل، لا يرمي شباكا ولا صنّارة، لا يتشبّه بميناء ولا جزيرة، لا يموء ولا يهشّ ولا ينحني حتّى لصورته في الماء، ولا يشرب نخب أحد…�أومأَ لي فأفرغتُ شباكي في البحر، وشحنت البحّارة وجرار الحبر والخمر في قوارب النجاة، وتطهّرت بدمعي ممّا علق بي من شهوات…، أومأ لي فهمهمت: لا شهوة إلاّ أنت، يا ربّ الغواية والسحر والفتنة والقتل�قال : ماذا؟�قلت: أنتْ�قال: ما اسمك؟�قلت: أنت�قال: ما وجهتك؟�قلت : أنت�قال: ما قصدك؟�قلت: أنت�قال: أوَ تهذي من حمّى؟�قلت : منك أنت�فدنا منّي وتخلّلني في صمت�يا ظلمة الأعماق لولا حنيني لملاّحي، لعجّلت زفافي إلى الرمل البارد، أوغل بي في زوبعة العشق، وفي مضيق العمر تخلّى، كدت أكون جزيرة منسابة، كدت أكون في هذا الزمن المالح غابة، لكنّه غاب كحلم شارد، واستفرد بي البحر…�حبيبي طفل يلهو بالأرواح، حبيبي صيّاد الصيّادين، حبيبي مبدّد عقول ومخرّب ذوات، لا يبحث في الضحيّة عن غنيمة، لا يلتفت أبدا ولا يدرك معنى الجريمة، حبيبي جفنُه طُعم… كلّه طُعم، يتثنّى كي يتثنّى فتحجّ إليه السفن مشتعلة وتطوف به جزر وقارات…�يا سكّان هذا القاع، أيتها الحيتان المتظاهرة بالعمى، أيّها الإسفنج الممعن في الشرب والعاجز عن السكر، أيها المرجان المحتقن المتململ، هل استغنى عنكم من استغنى عنّي؟، أم خلّفكم تيّار عذب، أم اخترتم هامش البحر؟، ترى كم في غياهب هذا القاع من حطام موجوع؟،كم من شراع قُدّ من قبل واتُّهم بمعاكسة الريح؟، كم من سارية كلّت من الوقوف فاستلقت في الغياب؟، كم من دفّة داخت في بحثها عن الاتّجاه الصحيح فألقوها وجاؤوا بدفّة طيّعة؟… �يا ظلمة الأعماق تكثّفي تكثّفي، تفشّي حولي وفيّ، كي لا يسرّ بحطامي غوّاص متأنّق، هوايته الوشاية وموهبته الشماتة، انسدلي تماما أيتها الظلمة، تيبّسي، تصلّبي صيري قبرا من فولاذ، فلكم أخشى على صغار الأسماك التورّط في متاهة حزني، والاختناق في شراييني المسدودة، غيّبيني فيك غيّبيني، فلكم يؤلمني أن أمسي بعد الذي كان، فزّاعة لعرائس البحر، مصدرا للكوابيس وعنوانا للوحشة�يا ظلمة الأعماق بي قدرة على الطفو من جديد وإفحام البوارج المدجّجة بالسفسطة، والقوارب السريعة المتحذّلقة، بي قدرة على إغواء البحر واستمالة الجزر وإدانة الزبد، لكن ما جدوى المشاركة في لعبة الأضداد المملّة، حيث لا خاسر ولا رابح إلاّ الوهم؟، ما جدوى إبحاري من جديد مادام مآلي الغرق؟، إنّي ولا لذّة أفلتت منّي، أعوذ بهدأة القاع من ضجّة الفقاقيع على سطح الأبد�غيّبيني أيتها الظلمة فقد صدئت رغبتي في الإغراء والإيذاء، أرغب فقط في تشرّب الملح وحدي، ومواصلة الرسوب في طيّات الرمل، وحدي جئت ووحدي أنمحي في صمت.