عبدالسلام الغرياني
حين تُلامسُ الكلماتُ جمر التاريخ، وتُحاكي أنفاس الأرض العتيقة، تولد روايةٌ كـ”تراب سخون” لأميرة غنيم، كأنها قصيدةٌ معلَّقة على جبين الزمن.
هنا، لا ينساب السرد كحكاية تُروى، بل كنداء يهزّ أعماق التراب التونسي، مُستعيدًا أنين الأرواح التي سكنته، وحروف الأسرار التي دُفنت تحت طبقات النسيان.
التاريخ التونسي عبر سرد يجمع بين الواقع والتخييل، مركزًا على شخصية وسيلة بورقيبة، الزوجة السابقة للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، والتي ظلَّتْ محورًا للجدل في المخيال السياسي والاجتماعي التونسي.
السياق التاريخي وشخصية “الماجدة”
تستند الرواية إلى حقبة ما بعد الاستقلال في تونس، وتستكشف الأحداث الخفية خلف جدران القصر الرئاسي، حيث تُقدِّم غنيم قراءةً مغايرةً لسيرة وسيلة بورقيبة —المُلقَّبة بـ”الماجدة”— التي ارتبط اسمها بسلطة بورقيبة وتأثيرها في صناعة القرار السياسي، قبل أن تُطوَّق بالصمت بعد طلاقها وعزل الزعيم. تتعمد الكاتبة كسر الصورة النمطية لـ”الماجدة” كشخصية شريرة أو فاسدة، وتستنطقها لتروي بنفسها تفاصيل علاقتها المعقدة بالسلطة والحب، وكيف تحوَّلت من رمزٍ للأنوثة الثورية إلى هدفٍ للانتقاد الشعبي.
بين التخييل والوثيقة التاريخية:
لا تقدم الرواية سردًا توثيقيًّا، بل تُعيد صياغة التاريخ عبر عين المتخيَّل، مستخدمةً تقنيات سردية مبتكرة مثل الرسائل والتسجيلات الصوتية، والتي تعكس تعدد الأصوات وانزياحات الزمن. تبدأ الحكاية باكتشاف “فلاش دسك” يحتوي وثائق سرية تخص وسيلة، لتنطلق منها الرواية في رحلةٍ تجمع بين الماضي والحاضر، مُحلِّقةً في فضاءات السياسة والدسائس، وكاشفةً عن التناقضات الإنسانية للشخصيات التاريخية، مثل بورقيبة نفسه، الذي يظهر ليس كرمزٍ مقدس، بل كإنسانٍ ضعيفٍ، عاشقٍ، وعنيفٍ أحيانًا.
التراب الساخن: رمزية الهوية والمقاومة:
العنوان “تراب سخون” إحالةٌ إلى مقولة شعبية تونسية: “تونس ترابها سخون”، التي تُجسِّد قدسية الأرض وقدرتها على تجاوز المحن. تختار غنيم هذا العنوان لترمز به إلى الصراع بين الهوية الوطنية والانهيارات السياسية، حيث يصبح التراب حاملاً لأسرار الماضي وبذور المستقبل. كما يُعبِّر العنوان عن سخونة الذاكرة الجماعية التي لا تهدأ، رغم محاولات طمسها أو تشويهها.
اللغة والسرد: حوارية الأصوات:
تمتزج في الرواية العربية الفصحى مع اللهجة التونسية، في حوارٍ بين الهوية الجامعة والخصوصية المحلية. كما تُبرز الكاتبة تعددية الأصوات عبر شخصيات مثل سعاد الكامل (ممرضة بورقيبة) وجاكلين غاسبار (صحفية)، مما يُضفي عمقًا على السرد ويُظهر تناقضات الرواية التاريخية والسياسية.
نقد السلطة والذات:
لا تكتفي الرواية بسرد الوقائع، بل تُقدِّم نقدًا لاذعًا لفساد الأنظمة السياسية وتأثيرها على الفرد، كما تُظهر كيف تُخاطر الشخصيات بخيانة ذاتها من أجل السلطة أو الحب. فـوسيلة، رغم نضالها المبكر في حركة التحرير الوطني، تجد نفسها مُهمَّشة بعد الطلاق، بينما يُصبح بورقيبة أسيرًا لغروره، مُضحّيًا بالعلاقات الإنسانية في سبيل البقاء في السلطة.
روائية تجدد التاريخ:
بـ”تراب سخون”، تؤكد أميرة غنيم – التي ابدعت في رواية سابقة ” نازلة دار الاكابر”- مكانتها كصوتٍ أدبيٍّ جريءٍ، قادرٍ على تحويل الأرشيف التاريخي إلى نسيج روائيٍّ حيوي. الرواية ليست مجرد استعادة للماضي، بل مرآةٌ تعكس أسئلة الحاضر التونسي عن الهوية والعدالة، وتذكيرٌ بأن التاريخ يُكتب دائمًا بأقلامٍ متعددة، بعضها يختار أن يكون صدىً للصامتين.
تتحول “تراب سخون” من سردٍ عن شخصية مثيرة للجدل إلى ملحمةٍ عن تونس نفسها، تُجسِّد صراعاتها وتطلعاتها عبر عين كاتبةٍ تعرف كيف تُحوِّل التراب إلى كلماتٍ ساخنة، تحفر في الذاكرة وتُنبت الأمل.