منصة الصباح

” أعطي البُرمه تعطيك”

زايد … ناقص

بقلم/جمعة بوكليب

صَديقي الذي يُقيم مُؤقتاً في باريس، أرسلَ إليَّ مؤخراً، على الواتسب، بصورة لطبق وجبة مكرونة مبكبكة جارية تسفّه، كان قد أعدّهُ، بعد ساعاتٍ قليلةٍ من حديث هاتفي بيننا، وردَ خلاله ذكر المبكبكة عدة مرّات وباشتهاءٍ يشبه الوَحَم . صديقي الماكر جداً، يعرف علاقتي الوثيقة بالمكرونة، بكافة أشكالها وأنواعها. والصورة المرُسلة منه كانت بقصد اثارة غيرتي، وليس شهيّتي.
يقولُ مثلٌ شعبي ليبي:” أعطي البُرمه تعطيك.” والمقصود، لا يمكنكَ الحصول على ما تشتهي من وجباتِ طعامٍ من دون مقابل وجهد. أي من دون أن تقوم بشراء وتحضير كل ما يلزمُ من مستلزماتٍ، وتوفيروقتٍ، وتهيئة نفسية، تتيحُ لك مجتمعةً فرصة تحضير وجبةٍ مشتهاة، و بمذاقِ طعمٍ تتمنّى أن تشاركه مع أحبابك وأصدقائك.
ما ينطبقُ على البُرمه، ينسحبُ على كل مشاغلِ الحياة الأخرى. لأن النجاحَ في الحياة لا يأتي مجاناً، ومن دون جهد. هذا ما نقلته لنا التجارب الإنسانية عبر التاريخ من حقائق. والناجحونَ والمبدعونَ في أعمالهم هم الكادحون. هم العاملونَ الذين يعرفون مايريدون الوصول إليه من أهداف، ويكرّسون كل أوقاتهم وجهودهم لتحقيقها.
الأمرُ نفسه كذلك يطال مجالات الإبداع الإنساني في الفنون والآداب بأنواعها. ولكي ينجحَ كاتبٌ أو شاعرٌ أو فنانٌ أو موسيقيٌ في مجاله، لابدّ له من تكريس نفسه ووقته، وكل إمكانياته، لتحقيق الهدف المأمول. لأن الابداعَ ليس وَحْيَاً سَماوياً.
الفنُّ لا يتحقق من دون فنانين، يكرّسون مواهبهم وأوقاتهم بحبٍ إلى فنّهم وابداعهم. وبالطبع، هناك استثناءاتٌ قليلة لهذه القاعدة. لكن الاستثناءاتِ مثل المعجزات لا يعوّل عليها، لأنها ليست المعيار الذي يقاسُ به نجاح الفنان والكاتب والموسيقي والشاعر من عدمه.
في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، زرتُ صديقي الشاعر المرحوم محمد الفقيه صالح في مقر إقامته بمدينة جنيف بسويسرا. كانت تلك المرّة الأولى التي نلتقي فيها بعد مغادرتي طرابلس إلى بريطانيا. وكان محمدُ قد وصلها قبلي بأشهر قليلة مع عائلته، ليكون عضواً في الفريق الدبلوماسي الليبي لدى البعثة الأممية هناك. خلال تلك الزيارة القصيرة جداً، لم نتوقف عن الكلام والنقاش. تحدثنا في كل ما كان يهمنا كصديقين ومثقفين جمعهما حبٌّ للفنّ والثقافة والوطن والانسانية. نقاشاتنا لم تكن تتوقف إلا في ساعات متأخرة من الليل. كان المرحوم محمد الفقيه، آنذاك، قد توقف لفترة عن كتابة الشعر، ونشر قصائده، التي كنت حريصاً على متابعتها وقراءتها بشغف، لقناعتي الشخصية بكونه أهم وأجمل الأصوات الشعرية في الساحة الليبية. وصمتُه الشعري، في تلك الفترة، أزعجني. في إحدى جلساتنا المسائية، طرحتُ الموضوع، وطلبتُ تفسيراً. قال محمدُ بصراحة متناهية إن عمله الدبلوماسي ومشاغله العائلية وقفت حائلاً بينه وبين الشعر. لأن الشعر، في رأيه، يتطلب من الشاعر تكريساً يشبه تكريس خادم لسيده. وإذا لم يجد ذلك التكريس من الشاعر، يتخلّى عنه مغادراً. ما قاله المرحوم محمد الفقيه صالح عن الشعر ينسحبُ على كافة أنواع الإبداع الأخرى.
التكريسُ يتطلب من الفنان والمبدع الاحتراف. المشكلة أن الاحترافَ في الفنّ والإبداع ليس سهلاً في ليبيا، أو حتى في غيرها من بلدان العالم العربي لعوامل كثيرة، تجعل من غير الممكن على المبدع أن يعتاش على ما ينشره. لذلك فهو مضطرٌ لمغادرة بيته، والانخراط في سوق العمل. إلاّ أن مجموعة صغيرة جداً من الفنانين والكتّاب الليبيين رفضوا الانصياع والامتثال لتلك الضرورة، وقبلوا التحدي. وبالفعل تمكنوا ،بمرور الوقت والصبر والتكريس، من تخطي العوائق والحواجز المفروضة، وحققوا ما يتمنّون. هنيئاً لهم.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …