عبدالسلام الغرياني
في فضاء الفكر الغربي الذي يقدّس نظرية التطور كحقيقة مطلقة، انفجرت عام 2006 قنبلة فكرية حملت اسم “أطلس الخلق”. هذا العمل الضخم الذي وضعه المفكر التركي المسلم عدنان أوكطار المعروف باسم “هارون يحيى”، لم يكن مجرد كتاب علمي، بل كان مشروعاً ثقافياً طموحاً يسعى إلى تقويض أسس الداروينية من جذورها.
وُلِد أوكطار في أنقرة عام 1956، ودرس الفنون الجميلة في إسطنبول قبل أن يتفرغ لمحاربة الفلسفات المادية. اختار اسم “هارون يحيى” إحياءً لذكرى النبيين التوأمين هارون ويحيى اللذين حاربا الضلال. وقد كرّس حياته لإنتاج عشرات الكتب التي تهاجم الإلحاد، وكان “أطلس الخلق” – الذي بلغ سبعة مجلدات وترجم إلى 30 لغة – أشهرها على الإطلاق.
يعتمد الكتاب على منهجية بصرية صادمة، إذ يعرض مئات الصور الفوتوغرافية لأحافير عمرها ملايين السنين، ويقارنها مع صور مطابقة لكائنات معاصرة. يقدّم أوكطار حفريات عقارب عمرها 290 مليوناً لا تختلف عن نظيراتها اليوم، وأسماكاً وزواحف محفوظة في الكهرمان تطابق أشكالها الحديثة، ليستنتج أن هذا التشابه المطلق ينقض فكرة التطور جملةً وتفصيلاً. كما يهاجم فكرة “الحلقات المفقودة” في السجل الأحفوري، معتبراً أن غياب الأحافير الانتقالية دليل قاطع على استحالة تطور الأنواع.
لكن الجدل الأعمق يكمن في الربط الذي أقامه أوكطار بين الداروينية والعنف الحديث. ففي ملحق الكتاب، يحاجج بأن نظرية “البقاء للأقوى” قدّمت الأساس الأيديولوجي للفاشية والنازية، بل وشرّعت للإبادة الجماعية والاستعمار، مستشهداً بمقولة ونستون تشرشل الاستعمارية: “عرق أقوى حلّ محل عرق أدنى”.
في فبراير 2007، شنّ أوكطار هجوماً غير مسبوق على المعاقل العلمية الأوروبية. أرسل 10,000 نسخة فاخرة من المجلد الأول (الذي يبلغ 800 صفحة) مجاناً إلى جامعات مرموقة مثل كاليفورنيا وشيكاغو وإمبيريال كوليدج لندن، وإلى معاهد بحثية ومدارس ثانوية في فرنسا وسويسرا وبلجيكا. التكلفة الفلكية للمشروع – التي تجاوزت مليون دولار بحساب تكلفة النسخة الواحدة (100 دولار) – أثارت تساؤلات عن مصادر التمويل، بينما ادّعى أوكطار أنها من أرباح مبيعات كتبه.
ردّت أوروبا كمن لُدغ بالأفعى. في فرنسا – القلب النابض للعلمانية – صُودر الكتاب رسمياً عام 2007 (مع إشارات إلى محاولات مصادرة مبكرة عام 2004). المفارقة أن هذا الإجراء جاء من دول ترفع شعار حرية التعبير، لكنها تفرض حماية صارمة على الداروينية كعقيدة غير قابلة للمسّ.
التفسير يكمن في أعماق الفلسفة الغربية. فكما حلّل المفكر عبد الوهاب المسيري، العلمانية الأوروبية لا تفصل الدين عن الدولة فحسب، بل تنزع القداسة عن كل المقدسات، وتجعل من الداروينية مرجعية مطلقة. التشكيك في داروين هنا يُعدّ هجوماً على أسس الحداثة الغربية ذاتها، خاصةً أن النظرية تُوظّف لتبرير التفوق الحضاري للغرب.
ورغم الحملات المضادة، زرع “أطلس الخلق” بذوراً غير متوقعة. انتشرت نسخه الإلكترونية بشكل واسع عبر المنصات”، ووصل تأثيره حتى إلى الفاتيكان حيث أعاد البابا بنديكت السادس عشر النظر في موقفه من التطور. كما كشف التناقض الصارخ في دفاع الغرب عن “حرية التعبير” بينما يُصادر أيّ رأي يهزّ ثوابته الفكرية.
اليوم، يُختزل الصراع حول هذا الكتاب في سؤال جوهري: هل يسمح الغرب فعلاً بنظريات بديلة في سوق أفكاره؟ “أطلس الخلق” لم يكن مجرد كتاب، بل كان مرآة كشفت التواطؤ بين العلمانية والداروينية كـ”دين جديد”، وبيّن أن معركة الرموز الفكرية لا تزال الجبهة الأكثر سخونة في حرب الهويات. لقد حوّلت فرنسا الكتاب إلى ممنوعات، لكنها – دون قصد – حوّلت مؤلفه إلى أسطورة في الوعي الجمعي لملايين المؤمنين بأن الخلق حقيقة لا تقبل التطور.