حوار …حنان علي كابو
بين شغفه بالمسرح وجرأته في مقاربة الواقع الليبي، يطلّ المخرج والممثل أحمد إبراهيم ليسلط الضوء عن تجربة متشعبة بين الخشبة والكاميرا. في إجاباته، يظهر الهاجس الدائم بالبحث عن شكل فني قادر على ملامسة قضايا الناس؛ من الميليشيات والفراغ السياسي إلى هموم الإنتاج الدرامي في بلد يفتقد الاستقرار. يتحدث إبراهيم بصدق عن رهاناته، مخاوفه، وما يعتبره “كفاءة مهدورة” في ظل ظروف إنتاجية قاسية، لكنه في الوقت نفسه يراهن على قوة الدراما كجسر بين المتلقي المحلي والقارئ العربي، مؤكّدًا أن ما قدّم لا يلغي قناعته بأن “الإمكان كان أكبر مما كان”.
إثراء المكتبة المسرحية
“وزارة الأحلام” النص مأخوذ عن رواية لمحمد الأصفر.. كيف تعاملت مع تحويل الأدب المكتوب إلى مسرح حيّ؟ وهل أخرجته لتنتقد الواقع أم لتصنع له حلما؟
تحويل النص الأدبي -رواية كان أم قصة ..الخ -إلى نص مسرحي ساهم في اثراء المكتبة المسرحية الليبية والارتقاء بها ..فأنتج عروضا أصيلة وجديدة وفي الاتجاه الصحيح على مسار البحث الجاد عن ملامح و هوية للمسرح الليبي والشخصية الليبية ..وأظهر التنوع الثقافي والجمالي في ربوع بلادنا الحبيبة مصاغا في عروض هي أيضا تنوعت شكلا ومضمونا..وعلى سبيل المثال لا الحصر:
1- مسرحية العراسة (مأخوذة عن قصة السلطان للأديب إبراهيم الكوني) كتبها للمسرح الفنان المسرحي علي الفلاح – إخراج الفنان محمد الصادق.
2- مسرحية حكايات ليبية ومسرحية جالو (مأخوذتان عن مجموعة قصصية للصادق النيهوم – رحمه الله -) مسرحها الأديب والمسرحي منصور بوشناف.. ويخرجها المسرحي المجدد المبدع محمد العلاقي.
3- مسرحية نزيف الحجر (المأخوذة عن الرواية الفلسفية نزيف الحجر للأديب إبراهيم الكوني) كتبها للمسرح وأخرجها أحمد إبراهيم حسن.
4- مسرحية يا مطر يا عمتي (مأخوذة عن قصة الرؤيا للقاص الأديب أحمد يوسف عقيلة).. كتبها للمسرح الكاتب المتميز فتحي القابسي.. ومن إخراج المرحوم شرح البال عبد الهادي.
5- مسرحية خراريف (مأخوذة عن رواية الحيوانات للمرحوم الصادق النيهوم).. وكتبها في إطار شعبي ساخر ويخرجها المبدع المسرحي عبد السيد آدم.
6- مسرحية وزارة الأحلام (مأخوذة عن رواية بنفس الاسم للروائي الأديب محمد الأصفر).. مسرحها أحمد إبراهيم حسن وأخرجها المسرحي إبراهيم فكرانا.
وان كانت الكتابة المسرحية أصعب أجناس الكتابة فان الاعداد المسرحي والدراماتورغيا أصعب من الكتابة تأليف.. إذ يعتزل المسرح المكان والأحداث.. والشخوص التي تمتعت بمساحة رحبة في الرواية.
وان الكتابة المسرحية بصفة خاصة – والدرامية بصفة عامة – في تكنيكها وهندسة بنيانها فن وليست أدبا.
وحتى لا ابتعد – وقد ابتعدت – عن سؤالك سيدتي .. النص المسرحي مشروع عرض وهو فن مهما بلغ مستوى حواره من أدب نثري منمق او شعري بديع.
في وزارة الأحلام مستني الرواية بمقاطع متناثرة – عبر نفسها الطويل – صالحة لمعالجة الدرامية.. مع إضافة مشاهد كتبتها لاكمال وتشطيب بنيانها ويكتمل مالم تحكه الرواية.
أثارني ان تكون للأفلام وزارة ووزير وحكومة يهمها ان تجد الرجل الذي يحميها من خطر أحلام الناس ..وعليه فيجب ان يكون من رجالات الدولة (الموالين اللحاسين…) فالأمن القومي اهم وزر على رقبته.
عملت بهذا النص ورشة عمل استغرقت شهرين مع صعاليك المسرح بالخمس برعاية النشاط الطلابي الجامعي ..
ثم نفذت فرقة مسرح هون المسرحية وشاركت بها في مهرجان المسرح الوطني- الدورة الحادية عشر.باسم “كركديه “كما أعاد إخراجها المخرج رمزي محارب لفرقة المبدعين طبرق باسم “البوفيه “وتم عرضها بدورة المهرجان الثانية عشر .
وكان من المفترض أن يكون ضمن عروض الدورة الثالثة عشر والمزمع إقامتها في أكتوبر القادم ..غير أن النص رفض من قبل لجنة الرقابة وإجازة النصوص ..إخراج المسرحي رمضان الطيره – فرقة أجيال المسرح درنة..
وفوجئت بعدها بتوقف تدريبات فرقة المبدعين – طبرق على نص (فلامنجو) وهو أيضا لأحمد إبراهيم وإخراج المسرحي رمزي امحارب..
وكي لا (أزعل) اجازوا لي على مضض نص مسرحية” كرتون” والذي كان سيشارك في هذه الدورة من المهرجان لفرقتي شموس ليبيا المسرحية ومن إخراج الفنان خالد بوشرود..
تحدث معي دائما مطبات كهذه اجتازها بالاحلام والمغامرة لتحقيق أحلامي في مناخ طارد وقاتل للشغل.
أحببت وزارة الأحلام جدا .. والحلم سيدتي هو ما دفعني لانتقاد الواقع بسخرية مريرة في هذا النص .. الحلم المعطل.
البشير بن عامر يشبهني …
– يعتبر أداؤك في السيرة العامرية من أقوى ما أنجزته الدراما الليبية.. ما الذي جعل هذه الشخصية تلتصق بك إلى هذا الحد؟
مسلسل السيرة العامرية من أجمل ما قرأت على صعيد الدراما التلفزية الليبية ..
أن تحب العمل وتؤمن بأفكار ورسائله.. وأن تحب الشخصية ويكون لك فيها وجهة نظر وموقف منها .. وان تخضع صوتك وجسدك لخلق روحها فنيا وباقناع .. تحس بأحاسيسها .. وتفكر بعقلها طيلة وقوفك أمام الكاميرا وبالتالي سيكون كل فعل بسيط تقوم به أو ايماءة او تعبير خطة حجاجية مبررة ومدروسة .. ومن جانب آخر فإن البشير بن عامر يشبهني!
الخروج عن النص …
_ ما المشهد الذي ما زال يلاحقك من العامرية حتى اللحظة؟
من المشاهد التي لازالت تلاحقني مشهد الخروج للبحث عن أخي سعد المختل عقليا .. فقد انفعلت وسلكت طريقا غير الذي رسمه لي المخرج جريان فوق جبل من جبال (زهوان الباردة جدا) بتونس .. وجدت نفسي فجأة معلقا في الهواء .. وسقطت على صخرة مدببة هشمت عظام قدمي .. وقفت وحاولت الدوس عليها حتى أكمل خروجي من الكادر .. ثم لم أع ما حدث!
– هل كنت أقرب إلى البطولة الفردية في هذا العمل، أم إلى صناعة جماعية تتجاوز الممثل الواحد؟
الحقيقة لم أكن .. ولم يكن البشير بن عامر بطلا للعمل ..بل كانت زوجته مبروكة – والتي جسدتها باقتدار الفنانة جميلة المبروك – بالفعل الدرامي.
ولا شك أن المخرج الكاتب نزار لحراري والذي أراه من المبدعين الشباب المجددين ومنهم المخرج أسامة رزق والكاتب المخرج بوبكر زين العابدين والمخرج مؤيد الزابطية.. لقد قدم هؤلاء دفعة قوية للدراما المحلية وغيرهم الكثير ممن لم تتح لهم فرصة الانتاجات الكبيرة ..
ولا شك ان نزار اختار كمخرج مجموعة من مبدعين التمثيل في ليبيا وتونس اختيارا دقيقا ضمن له نتيجة مرضية أعلنت عن ولادة كاتب متمكن ومخرج متميز ..
الابداع أن تخلق شيء من اللا شيء …
_ شخصية “أمانوكل” في: آغرم ” التي أديتها حملت بعدًا رمزيًا.. كيف اشتغلت على هذا العمق لتكون أكثر من مجرد شخصية تاريخية؟
مسلسل آغرم – المدينة العائمة للمخرج المبدع أبوبكر زين العابدين والذي اشتغلت معه” سوق الجريد وحارس الصحراء” .. هذا المخرج الذي لم تتح له فرصة الحصول على إنتاج يمكنه من تحقيق أعماله .. ولكنه رغم ذلك وبمعدات بسيطة متواضعة ومشاعل وفنارات الكيروسين رسم صورة جميلة واحداث شيقة كعالم سحري .. وهذا هو الإبداع الخلاق .. أن تخلق شيئا من اللا شئ.
المسلسل كتبه الفنان هاشم الزروق وأخضع لبيئة التوارق..
هذا العالم الغني بالجمال يستحق العناء وحر الصحراء..
الانسان هو الإنسان في كل الثقافات .. الرغبات ذاتها التي تسود القلب إلى حد الطغيان لتحقيق مآربه وفرض سلطانه.. فأله نفسه ولا زال ينفق المليارات ليخلد حيا .. يقول تعالى (كلا ان الانسان ليطغى ..).
كان ملهمي ومفتاح ولوجي لعالم التوارق وحفظت الكثير من كلماتهم الفنان التارقي عثمان بالي رحمه الله .. كنت أستمع وأشاهد أغانيه وحفلاته قبل دخولي للتصوير.. حتى أني تقمصته في شخصية أمانوكل.. فقد كان المسلسل حلقات منفصلة.
صعوبة الإنتاج يقف حائلا …
– وصفت مستقبل زاهر بأنه تحدٍ في تفادي التكرار.. ما الذي كان يخيفك من الوقوع في الفخ؟
الموضوع في مسلسل مستقبل زاهر ليس جديدا وتم معالجته كثيرا قديما وحديثا .. ومن هنا كان تخوفي ..
في معالجة نزار للموضوع تقاطعت الأحداث الدرامية مع الواقع فاكتسب شعبية كبيرة ..
ورغم هذا النجاح فأنا مقتنع أنه كان بالإمكان أكثر مما كان .. ولكن الظروف الإنتاجية صعبة في بلادنا بصفة عامة.
هشاشة العالم بأسره ..
– مسرحية كرتون تبدو من العنوان وكأنها تحاكي هشاشة الإنسان.. كيف ولدت فكرتها وإلى أي حد ترى أن الإخراج استطاع أن يحوّل الورق (النص) إلى لحم ودم؟
مسرحية كرتون عمل (حداثوي) سهل الهضم ويعتمد على قدرات الممثل .. كوميديا بمذاق مختلف تخاطب العقل وتحرك ذهن المتفرج .. وهي لا تحاكي هشاشة الإنسان فحسب بل هشاشة العالم بأسره من حوله .. كرتوني الشكل والموضوع ..
المسرح لا يستمر ولا يحيا الا بالتجريب.. التجريب بمعناه الدقيق العلمي المبني على دراية ومعرفة وخبرة ..
لم يبدأ المخرج العمل مع الممثلين والطواقم الفنية بعد .. حقيقة عجزنا عن الحصول على مقر للتدريب.. ولأن الفرقة ليس لها صندوقا ماليا تستطيع من خلاله توفير أقل متطلبات العمل .. وكذلك ضيق الوقت .. فآثرنا عدم المشاركة بمولود ناقص أو مشوه.. وربما كان هذا قرارا سليما ويخفف من أعبائي كمدير للفرقة..
الحقيقة خسرت متعة رؤية أبنائي الثلاثة (كرتون و فلامنجو و وزارة الأحلام) .. بعد انتظار طويل .. وهذا محزن جدا! .. (يعطينا الله الوقت الطيب والمناخ الإبداعي).
ملاذ من تمرد ..
– قدّمت أول مونودراما في ليبيا عام 1987 بمسرحية اللعبة.. هل كنت تدرك أنك تؤسس لتيار جديد أم كان الأمر مجرد مغامرة؟
المونودراما كانت ملاذا بالنسبة لي .. كانت صرخة .. كانت محو لكل ما لم يمنح لي من فرص عمل ودعم وتشجيع .. محو كل مالا أقدر على توفيره وتجسيده .. كانت تمرد على كل ما حولي وقتها ..
المونودراما أشبه وأقرب للمسرح التعبيري وأشبه بمونولوج داخلي طويل ..
شجعتني تجارب المسرحي المغربي عبد الحق الزروالي والذي زار ليبيا أكثر من مرة بعروضه رغم أن أغلبها لم تعجبني فنيا .. إذ كانت تعتمد على السرد في غياب الحدث المسرحي ..
لقد قدمت العمل في بيتي المسرحي وفرقتي الأم والذي ترعرعت فيه فرقة مسرح المرج بادارة الفنان والمربي المرحوم علي ناصر..وتمثيل المرحوم الفنان مفتاح السنوسي من المرج . وتوالت أعمالي وأعمال غيري في هذا المضمار مونودرامات نسائية ورجالية بعدها.. والحمد لله صار لدينا مهرجانا مغاريبيا للمونودراما .. يقام في البيضاء .. كما أعلنت إدارة مهرجان درنة الزاهرة بقبولها أعمال المونودراما في دورتها لهذا العام..
امتداد لجيل ضحى وعمل ..
– كيف ترى تجربة الممثلات الليبيات في المونودراما: جميلة المبروك، فاطمة غندور، سعاد خليل، نجلاء لامين؟
عن الممثلات اللآئي ذكرتهن بالاسم ربما لأنك تعلمين أنهن اشتغلنا معي .. فهن امتداد لجيل ضحى وعمل في وقت كانت المرأة فيه حبيسة.. وكان من العار أن تمتهن المجال الفني فلهن جميعا كل التقدير والاكبار..
* جميلة المبروك تلميذتي ومتشبعة بأسلوبي لكثر ما عملنا سويا وهي مريحة جدا في العمل .. تحب عملها ومخلصة لفريقها وهي متمكنة مسرحيا وتحصلت معي مرتين على جائزة أفضل ممثله بمهرجان المسرح الوطني .. الأولى عن دورها الملكة في مسرحيتي الملك يموت .. والثانية عن دورها في مونودراما امرأة وحيدة.
* السيدة فاطمة غندور أستاذة .. مثقفة وقد انعكس ذلك على أدائها الراقي المنطلق من الداخل كما في عرض توقف ومونودراما امرأة وحيدة.
* الأستاذة سعاد خليل المبدعة .. صاحبة خبرة طويلة .. متفانية في عملها .. هي من جعلت من شموس ليبيا تبزغ داخل الوطن وخارجه .. أعتز بهذه الفنانة وأحترم مشوارها الفني المشرف.
* المتألقة نجلاء لامين فنان مجتهدة تطور من نفسها باستمرار على صعيد التمثيل وحتى على صعيد الكتابة الدرامية .. شغوفة وذكية وسريعة البديهة على الخشبة.
خذلان محبط
– اعتذرت لأسرة ترحال عن تقصيرك.. هل كان الاعتذار اعترافًا بالعجز الفني أم بالخذلان المؤسسي؟
المسرحية الشعرية (ترحال) اعددتها من قصائد الشاعر المناضل الشيخ سليمان الباروني .. ومن بعض القصائد التي قيلت فيه .. كان ذلك احتفال به وبكونه شخصية العام الثقافية 2024 ..
لم يكن اعتذاري لفريق العمل بعد العرض اعترافات بالعجز الفني وإنما كما ذكرت حضرتك كان عن الخذلان المؤسسي المحبط.
– المسرحية الشعرية تُعتبر من أصعب الأنماط المسرحية.. ما الذي أغراك بخوضها رغم كل التحديات؟
لي غير ترحال تجارب مسرحية شعرية أخرى أهمها عرض (هنا غزة).. نظمت هذا العرض بقصائد لشعراء عرب ومحليين .. ليرى العالم موقفا مشرفا للمثقف الليبي ومشاركة وجدانية مع أشقائنا بغزة.
وقدمت مسرحية غيث الفتى الشهيد الذي نظمها الأستاذ الأديب محمد أحمد اوريث وهي مأخوذة عن قصيدة لشاعر الوطن أحمد رفيق المهداوي.
تفرض المواضيع لغة حوارها التي تنسجم وتتوائم مع ماهو فني ويدفع نحو الهدف الأعلى للنص ..
المنع يصنع له قيمة
– لجنة الرقابة لم تُجز نص وزارة الأحلام ولا فلامنجو.. هل المنع يصنع قيمة للنص أم يقتله؟
المنع لا يقتل النص بل يصنع له قيمة..
سبق وأن أوقفت تدريبات الفرقة الوطنية على نص رائحة البارود .. ثم تقديمه بعد سنوات في مصراته ..كذلك تم منع مسرحية الناقوس ثم قدمها المخرج المتميز عبد السيد آدم بعد ذلك بسنوات .. وكذلك الحال مع عرض جلسة تذوق والتي أوقف عرضها بالدورة الرابعة من مهرجان المسرح الوطني..
فضاء الحرية
– هل تعتقد أن الفنان الليبي يبدع أكثر تحت الضغط والمنع، أم في فضاء الحرية؟
ليس الفنان الليبي فحسب .. فكل فنان سيبدع أكثر في فضاء الحرية.
أسوأ شئ أن تميل الثقافة والاعلام مع الريح حيث تميل .. ما لهذا كان الفن .. وما لهذا كان الأعلام.