تم الإعلان مؤخرا عن النجاح في زرع شريحة دماغية في أول إنسان، وكالعادة تبدأ الأفكار والاختراعات بأهداف نبيلة كالعلاج والوقاية والتطوير…الخ، لكن لا شيء يمنع من الانحراف نحو الهاوية المظلمة كما حدث مع المسدس والديناميت والذرة وعلم الجراثيم والعقاقير وغيرها.
وفي ظل السباق المحموم بين مختبرات العالم المتقدم في عديد الدول شرقًا وغربًا لإنتاج الشرائح الدماغية وتطوير امكانياتها وزرعها في الأدمغة البشرية كي يتم ربطها بمختلف الحواسيب والتحكم بها عبر الذكاء الاصطناعي، تتبادر للأذهان ذكرى مشروع قادته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل أكثر من 70 سنة منذ عهد مديرها “آلن دالس” والمسمى مشروع (م. ك. الترا) والذي استمر طوال عقدين حتى تم الإعلان في 1973م عن توقفه نهائيا بعد سجالات واحتجاجات حول خطورته على البشرية، ويتلخص المشروع في ابتكار طرق وعقاقير للتحكم في العقل البشري والسيطرة عليه بما يمكن معه توجيهه واستنطاقه ومعرفة ما يخبئ المرء دون أن تكون له قدرة على الكذب أو الاحتفاظ بما لديه من معلومات.
وفي خضَم الثورة التكنولوجية التي قلصت العالم إلى قرية صغيرة، وجعلت صغار الدول مكشوفة أمام كبارها على كافة الصعد العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية مع توفر وسائل الغزو الثقافي الذي لم يعد للأهل قدرة على السيطرة على أولادهم معه ولا تقييد تأثيره عليهم بالرغم من الاعتذارات التي تقدمها أهم شركات التواصل الاجتماعي والتي كان آخرها نهاية يناير الماضي عندما قدم رئيس شركة (ميتا) اعتذاره للعائلات في جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأميركي عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال، لم يعد كافيًا التجسس على المستخدمين عبر خوارزميات وبرامج خاصة تتبع عمليات بحثهم في فضاء الانترنت لترتيب ما سيتم توجيههم إليه عبر الإعلانات والمنشورات بما يخدم المعلنين وأصحاب الأعمال والتجار، ولا أن تتدفق البيانات والمعلومات إلى أجهزة المحللين الذين يستخرجون منها المؤشرات التي لا غنى عنها لصنع القرار.
ولن يتوقف الأمر على شريحة دماغية قد تستخدم في مجالات الطب أو التعليم أو تعديل السلوك أو التحقيق في الجرائم والإرهاب، بل سيتعدى ذلك إلى التحكم في المشاعر والميول والرغبات والاختيارات والقرارات للأفراد ثم الجماعات، عندما تقول نعم فلن يكون ذلك بإرادتك ونفس الشيء عندما تقول لا، ستغدو اختياراتك وفق أهواء التجار وأباطرة الصناعة، وستغدو حالتك الصحية وفق أهواء المستشفيات وشركات الأدوية، وستغدو اختياراتك السياسية وفق ما يرغبه المسيطر محليا أو دوليا، وستتحول إلى مجرد إنسان بشري لكن بعقلية آلية بحتة، ستتحدد كميات طعامك وساعات نومك وعدد أولادك ومستوى تعليمك وثقافتك وعدد السكان في بلدك، ستحب وتكره ربما ليس كما كان أبوك وجدك، وستختلف قيمك ومبادئك وأخلاقك وبناء عليها مواقفك، وربما يختارون لك لون بشرتك وشعرك وعينيك وحتى طولك ووزنك، وقد يبدلون لك دينك ان استطاعوا، لن تهتم ببلدك ومواردها أو من يحكمها أو من يسرقها أو يدنس مقدساتها ويقف على قبور أبطالها، أو من ستقيم معه دولتك علاقات ديبلوماسية وربما عدو الأمس سيكون أقرب أصدقاء أولادك وأحفادك.
وبما أن العالم قد خبر الحروب في ميادين القتال وخاض في القرن الماضي حربين عالميتين، وواصل سباق التسلح وتطوير الجيوش البشرية ثم الإلكترونية، وتفنن في خلق مواجهات ضمن الحروب الاقتصادية، ومهما تحكمت الدول في مواقفها وتحالفاتها لتفادي الحرب الثالثة، إلا أن هذه الحرب ستكون مختلفة وبأدوات مختلفة وفي ميادين مختلفة، البعض يقول أنها لغزو الفضاء والبعض يقول أنها لحماية كوكب الأرض من غزو فضائي، لكن ربما تكون أقرب من ذلك بكثير وقد بدأت فعلا في الأدمغة البشرية وأدواتها جهاز كمبيوتر وشريحة دماغية.