منصة الصباح

الكميشات.. قريتنا الجميلة

أحلام محمد الكميشي

كان أبي يأخذنا أمي وإخوتي وأنا خلال الصيف لزيارة بيت جدي لأمي بقريتنا (الكميشات) بمدينة غريان ونبقى هناك أيامًا بينما يعود هو لعمله بطرابلس ويتعمد أن تكون رحلة العودة ليلًا إذ كان يعشق السير بالليل ويحب عمله ويلتزم بالدوام وأورثني كل هذا، وكانت الزيارة تمتد أكثر من أسبوع ما يسمح لنا بمرافقة الأولاد والبنات المكلّفين برعي (السعي) صباحًا ومساءً إذا أفلتنا من عقوبات تقررها أمي التي نذعن لأوامرها بالنوم باكرًا كأحد شروط الفوز بالرحلة الممتعة التي تبدأ (مع طلوع الضو).

في المساء وكل يوم عند عودة الصغار بقطعان الأغنام من المراعي في الشعاب القريبة، كنا نركض وراء (الشواهي) طول الطريق بين السواني وشراكات أهالي القرية والبيوت المتناثرة، وعند اقتراب أي قطيع من (زريبته) يركض بسرعة نحوها كي يشرب في حال لم يمروا به على سانية الوادي وكي يجد العشاء من علف ونحوه بانتظاره زيادة في إطعامه، ثم يتم حلب الشياه يدويًا بواسطة الأمهات والجدات اللاتي يسهرن يمخضن اللبن ويستخرجن منه الزبدة والسمن، حيث تتهادى (الشكوة) فوق ساق إحداهن الممدودة بينما يعزف اللبن بداخلها نغمة محببة كلما هزت المرأة شكوتها لأعلى وأسفل على التوالي.

وخلال مرورنا بالسواني عبر طرق ومسارب ترابية ضيقة مهدتها الأقدام منذ قرون، كنا نلمح أعمدة دخان عديدة متفرقة صاعدة نحو السماء كأنما تحمل قبة تغطي القرية وتستلقي حوافها خلف الجبال، وتفوح رائحة الأعشاب المحترقة في الأفران تتلوها رائحة خبزة الفرن الشهية ويال الحظ لو لحقنا جدتي أو زوجة خالي أو خالتي قبل أن تكمل رمي العجين في الفرن كي نقنعها بإلحاح طفولي لا ييأس (والنبي ديريلي جبور).

بانتهاء الصيف كنا نعود إلى طرابلس ومقاعد الدراسة بذاكرة مليئة بالقصص وقلوب مازالت ترنو لتلك الهضاب ونحن نصعد ونهبط متتبعين القطيع نذوده عن أشجار الناس وأراضيها ونحرسه من الذئاب التي كنت أسمع عوائها بعد المغرب في كثير من الليالي قادمًا من جبل (بسطام) الذي تتكئ القرية عند سفحه وتعلو قمته آثار حجرية تخص أجدادها.

كنا نستمتع بسرد حكاياتنا ومشاهداتنا على زملاء الدراسة بعقل طفل صغير كبر وظلت الحكايات تغذي إحساسه ووجدانه وتربطه بتراثه العتيق.. وكنا نتبادل الجملة الشهيرة التي يرددها الأطفال (مشيتوا لبلادكم؟ احنا مشينا لبلادنا).. ثم كبرنا وعرفنا أن البلاد أكبر من قرانا وأن طرابلس ككل العواصم والمدن الكبيرة بلاد الجميع يحضرون إليها زرافات بتوالي الأحداث والأجيال يرتمون في حضنها ويذوبون في براحها وتُصيرهم خيوطًا في نسيجها.

وأنا كبرت وتزوجت من طرابلس، وكلما زرت قريتنا للسلام على أبي وأمي اللذين صارا بعض ثراها، أمد نظري في كل أرجائها، ألاحق سراب أعمدة دخان كانت ذات يوم تعقم القرية وتنشر رائحة الزيتون والشيح والرتم والزعتر والخبز الشهي الذي فقد طعمه بعد استسلام الفرن للمخبز الحديث فيما تنام سواعد الجدات حيث نام أبي وأمي، وتوقف الأطفال عن الرعي والأغنام عن الركض في المسارب وشعاب الجبال المحيطة، وجفت (الشكوة) في غياب اللبن.

شاهد أيضاً

ريبسول مرزق تناقش مع مؤسسة النفط برنامجها الاستكشافي لعامي 2024/2025 في حوض مرزق

عقدت شركة ريبسول مرزق اجتماعها الفني الأول للعام 2024 مع إدارة الاستكشاف بالمؤسسة الوطنية للنفط، …