منصة الصباح
أبوبكر كهال: الحنين هو صانع القسوة في أعمالي الروائية   

أبوبكر كهال: الحنين هو صانع القسوة في أعمالي الروائية   

خلود الفلاح

روائي إرتري يرى أن الكتابة الروائية شهادة على ما حدث، وما يزال يحدث في بلاده إريتريا.

في روايتيه “تيتانيكات أفريقية” و”في بلاد البونت” يرصد تشظيات الذاكرة الجمعية لضحايا الحروب والهجرة غير الشرعية.

يشغله سؤال الإنسان، الحرب في بلاده حاضرة بملامحها في ذاكرته، وفي كتاباته.

تُرجمت روايته الأشهر “تيتانيكات أفريقية”  إلى عدة لغات عالمية، وتُدرّس اليوم في أكثر من 18 جامعة ومعهدًا وكلية في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا واسكتلندا وألمانيا.

أبوبكر حامد كهال يجعل من الحنين إلى الوطن والبيت والشوارع صوتًا روائيًا متجددًا، لا يخفت.

البداية

– روايتك الجديدة “مراكب الكريستال” ثمة حضورا كثيفا لفكرة الهجرة. في ظل هذا الحضور. كيف تصوغ مفهوم الوطن. أهو مكان أم حالة؟ وهل يمكن أن تكون الرواية وطناً بديلاً؟

ـ الهجرة فعل إنساني خالص، رافق البشرية منذ فجر التاريخ، بحثًا عن شروط حياة أكثر عدلاً وإنسانية.

في وطني، حيث القمع لا يعرف حدودًا، يهاجر الناس للنجاة من السجون، من الإخفاء القسري، من الخوف المزمن على الحياة، فقط لأنهم تجرأوا على الكلام. نعم، هناك سجناء كُثر لأنهم تكلموا، لأنهم أرادوا قول الحقيقة.

الرواية، بهذا المعنى، هي محاولة رثاء لا تريد أن تبقى صامتة، بل تطمح لأن تكون مسموعة.

كتبتُها لأتحدث عن ذلك العطب العميق الذي ينخر جسد البلاد.

كتبتها لأنني وجدت الوطن في حالة إغماء، وكان لزامًا عليّ أن أصرخ في وجه هذا الصمت، عسى أن يُفيق، أن يُشفى.

الوطن، بالنسبة لي، لا بديل له، حتى وإن تحوّل إلى سجنٍ كبير.

بعض شخوص الرواية يحاولون التعايش مع عطب البلاد بشجاعة، وحتى إن لم يمتلكوا صوتًا مسموعًا، فهم مهمومون بالوطن، منشغلون بألمه، يكتبونه، يحلمون له، ومن أجله.

رواية ” في بلاد البونت”

– رواياتك “تيتانيكات أفريقية” و”رائحة السلاح” و” في بلاد البونت”. هل الكتابة بالنسبة لك هي استمرار لاختبار الهوية الأولى والحنين للوطن؟

ـ الحنين هو رفيقي الأبدي. معظم رواياتي غاطسة في هذا الحنين العميق، الذي يشدّ حبال أوتاد خيمة حياتي.

هو ليس حنينًا عابرًا أو لحظة عاطفية طارئة، بل هو بنية شعورية تشكّلني، وتدفعني إلى الكتابة كما لو أنني أكتب لأتذكّر، أو لأتأكد أنني ما زلت أنتمي.

بالكتابة أحقق فعل الهوية. هو فعلٌ لا ينبغي أن يُترك للجمود أو النسيان، بل يجب أن نبقيه جذوة متقدة، مشتعلة بالحبر والأسئلة والتجربة.

الكتابة بالنسبة لي ليست فقط استعادة لما مضى، بل تأكيد مستمر على أنني ما زلت أبحث عن ذاتي في كل عبارة، وأسترجع الوطن الذي يسكنني، حتى وإن كنت بعيدة عنه.

ـ الحرب في إريتريا، كيف شكّلت نصك الروائي؟

ـ نشأتُ في إقليم عنسبا، وتحديدًا في “عين سبأ”، مطلع الستينيات. كان الإقليم يومها معقل الثورة الإريترية بقيادة جبهة تحرير إريتريا، وكان الصراع على أشدّه مع قوات “الكوماندوز” الإريترية، وهي ميليشيا عميلة كانت تقاتل إلى جانب الجيش الإثيوبي، الذي كان يستعمر إريتريا آنذاك.

تكوّنت هذه القوة من بعض المسيحيين الإريتريين، وكانت تمارس أبشع أنواع القمع والترويع؛ تحرق القرى، وتدمّر المزارع، وتُفني الحياة حيث مرّت.

كبرتُ في وسط هذه النيران، ونجوت من الموت أكثر من مرة. في عام 1967، عندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية، استغلت إثيوبيا انشغال العالم، فأطلقت يد الكوماندوز لترتكب المجازر في صمت دولي مريب.

تلك الأحداث لم تكن مجرد مشاهد عابرة في طفولتي، بل تحوّلت إلى ذاكرة جرح، وإلى نواة خام خامرت نصي الروائي، وظهرت بوضوح في روايتي “رائحة السلاح”، ثم لاحقًا في “بركنتيا – أرض المرأة الحكيمة”.

لقد كتبتُ بدافع الألم، وبدافع الرغبة في أن تظل تلك الذاكرة حية، لا لأنها تُسعدني، بل لأنها تشكّلني، وهي التي دفعتني لأمنح الحرب صوتًا، لا ليُمجّدها، بل ليُدينها.

ـ ثمة قسوة في أعمالك الروائية. لماذا؟

– السبب الواقع الذي أستمد منه مادتي الكتابية. أنا لا أكتب من الخيال، فلابد ليّ أن أغطس في الواقع عميقاً بكل ما فيه من صور وأحداث. القسوة ليست خيارًا أسلوبيًا عندي، بل نتيجة طبيعية لمادة الحياة التي أستمد منها كتابتي. حين أكتب، أبحث عن الصدق.

أنا أكتب لأُشهد على ما حدث، على ما يحدث، وأؤمن أن الكتابة، حين تكون حقيقية، لا تتهرّب من الألم، بل تواجهه.

ـ المثقف الإرتري في الداخل… ماذا تخبرني عنه؟

ـ المثقف الإرتري في الداخل بلا حول ولا قوة. صوته شبه معدوم، مخنوق تحت القبضة الحديدية للنظام، والصوت الوحيد المسموح به هو ذلك المتماهي مع السلطة، لقد جرى لجم الصوت الحقيقي، ودفنه عمدًا.

خذ مثلًا المناضل والقاص إدريس أبعري؛ حين تجرأ على التعبير عن قلقه إزاء ما تتعرض له الثقافة واللغة العربيتان من تهميش ممنهج وحرب شعواء، لم يجد من يصغي، بل وجد نفسه في السجن، حيث يقبع منذ عشرين عامًا حتى اليوم، بلا محاكمة، فقط لأنه تكلم.

هذا هو الثمن الذي يدفعه المثقف الحقيقي في الداخل: الصمت المفروض أو السجن الطويل. ولهذا كثيرون باتوا يكتبون في الظل، أو لا يكتبون إطلاقًا، لأن مجرد التعبير عن الوعي تحوّل إلى تهمة.

رواية "تيتانيكات أفريقية"
رواية “تيتانيكات أفريقية”

– في روايتك “تيتانيكات أفريقية” تقدم شهادة حية عن الهجرة “غير الشرعية “. هل هذا يعني أن الأدب ليس خيالا خالصاً؟

نعم، التجربة كانت حاضرة بقوة، ولهذا يجد القارئ في الرواية تلك الشهادة التي تحدثتي عنها.

لقد مزجتُ بين الخيال والسرد من قلب الواقع، استحضرتُ الأساطير الإفريقية، وبعض الأساطير من صنعي، لكني لم أبتعد يومًا عن جذري الواقعي.

ما كتبته هو في معظمه ما عاينته بنفسي، ما مررتُ به وما رأيته بأم عيني، وما سمعته من أصوات لم تجد طريقها للنشر أو الحفظ.

أكتب من رحم التجربة، لا من مسافة بعيدة، ولهذا ربما يجد القارئ أن الرواية ليست فقط سردًا، بل شهادة نابضة بالحياة والموت معًا.

– رواياتك تقوم بدور التاريخ وكأنها ضوء قوي في وجه التهميش والنسيان الذي تعيشه أرتريا. كيف ترى المسألة؟

ـ نعم، بالتأكيد. لقد كتبت “رائحة السلاح” و “بركنتيا – أرض المرأة الحكيمة” بدافع خوف عميق من نسيان التاريخ الذي سجله الشعب الإريتري في مقاومته للاستعمار.

كتبت عن الإنسان في أوج عطائه، عن الرجال والنساء الذين حملوا راية النضال، عن كل من شاركوا في صنع هذا التاريخ.

كتبت عن الشجر والحجر، كل وجوه الحياة في ذلك الزمن، بكل تفاصيلها، لأن الحياة ليست فقط أحداثًا، بل تفاصيل صغيرة تشكل الذاكرة الجمعية.

رواياتي شهادة حية على زمن لا يمكن أن يُمحى، وضرورة إنسانية للحفاظ على هذا التراث الحي، ونقل صوت شعب لم يُسمع بما يكفي.

ـ ينطلق مشروعك الروائي من إرتريا.. لماذا يجهل القارئ العربي الأدب الإريتري؟ هل تعتقد أن هذا الأدب قد تعرض للنسيان؟

ـ الأدب الإريتري، وخاصة المكتوب باللغة العربية، يعاني من تهميش حاد، بل ومحاربة ممنهجة.

لهذا السبب نجد أن أغلب الكُتاب الإريتريين مضطرون للعيش في المنافي، يصدرون أعمالهم بمجهوداتهم الفردية، بعيدًا عن أي دعم رسمي أو مؤسسي.

أما ما يصدر داخل إريتريا باللغة العربية، فهو بالكاد يُذكر، ويكاد يكون معدومًا، وهذا يعكس بوضوح حجم الضغوط والمضايقات التي تُسلط على هذا الأدب من قبل السلطات.

– يرى البعض روايتك “تيتانيكات أفريقية ” هي الرواية الأنضج في مشروعك الروائي. هل تتفق مع هذا الرأي؟

ـ “تيتانيكات أفريقية” كانت بالفعل رواية محظوظة من عدة جوانب؛ فهي لحسن الحظ دخلت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في فرنسا وفقًا لاستبيان صحيفة القدس العربي.

وكانت محظوظة مرة أخرى لأنها تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية عن دار دارف في لندن، وتدرس اليوم في أكثر من 18 جامعة ومعهد وكلية في أمريكا وكندا وبريطانيا واسكتلندا وألمانيا.

يسعدني جدًا رأي النقاد الذين اعتبروا هذه الرواية أنضج أعمالي، وأيضًا رأيهم أن رواية “بركنتيا – أرض المرأة الحكيمة” تمثل محطة مهمة أخرى في مسيرتي الأدبية.

أنا ممتن لهذه الآراء التي تشجعني على الاستمرار، وأرى فيها دافعًا لمزيد من البحث والتجديد في تجربتي.

– ماذا تحمل من ذكريات عن ليبيا؟

ـ أحمل الكثير من الحب والمودة لليبيا الجميلة ولشعبها المضياف. لقد تعلمت فيها وعشت أزهر أيام حياتي، وربطتني علاقة أخوية عميقة مع كثير من مثقفيها وأدبائها.

ومن بين أصدقائي، على سبيل المثال لا الحصر، الراحل الشاعر الكبير الجيلاني طريبشان، والأديب حسين المزداوي، والراحل إدريس المسماري، والناقد رمضان سليم، والمسرحي والروائي منصور بوشناف، والصحافي الكبير محمود البوسيفي.

ولكن صداقاتي تمتد إلى ما هو أبعد من هؤلاء، فهي شبكة واسعة من الروابط الإنسانية والثقافية التي أثرت تجربتي وأغنتها بشكل كبير.

شاهد أيضاً

مؤسسة النفط تُعلن عن قفزة نوعية في معدلات الانتاج

مؤسسة النفط تُعلن عن قفزة نوعية في معدلات الانتاج

الصباح أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، اليوم الأحد، عن تحقيق قفزة نوعية في معدلات الإنتاج، مسجلةً …