حنان علي كابو / الصباح
يجوب في مسالك الروح ،يجيد رص الكلمات وليست اي كلمات ،تضيق عبارته في معنى مكثف ،يهوى تسلق المجازات العالية ،لايستسيغ السهل ،تنحدر من فوهته قوة المفردة ،يدرك كقناص متى يجيد الانطلاقة ومتى يصوب زناد الخاتمة بقفلة تجعل الكل يردد “الله ” وتضج في حضرته أكف التصفيق مابين إعجاب آخاذ .
في حضرة الشعر يبدو الشاعر كصوفي يتنزه ،فكيف وجد رفقته
في هذا الفسحة كان شعراءنا بمدارسهم المختلفة واصواتهم المتنوعة يمنحون رفقته بعضا من ذكرى ومسيرة مكللة …!
الشعر رفيقي ولا أستغني عنه .
منذ أن تعرف الشاعر فرج العربي الي الشعر تعرف الى الحياة ، هكذا يصف في أولى مبتداه ويضيف “سأقول إن الشعر هو الحياة بالنسبة لي ولا أعتقد بأن هناك حياة بدون شعر فالشعر هو الماء الذي أشرب واللذائذ التي اشتهي والطريق الذي اسلكه بمتعة ، الشعر هو تحولي ورغباتي، وهو دهشتي الأولى أمام الأشياء وقدرتى الدائمة علي السؤال .
أين هو الشعر من التحولات التي نعيشها ، قد نكتشفه في كل شئ حولنا ، في ابتسامة عميقة تصدر مباشرة من القلب ، فى حفاوة شجرة تغمرنا بظلها ، فى خفتنا عندما نشعر بالامتنان والفرح ، فى سفرنا ومتعة اللقاء مع من نحب ..الشعر يقودنا دائما لأكتشاف الحياة ومعرفة الآخرين .
الشعر رفيقي الدائم ولا أستغني عنه يمنحني الطمأنينة عندما أشعر بالضجر ، ويمنحني الأمان حين تهاجمني شراسة العالم .
الشعر يعطينى المعنى لوجودي ، و الكتابة وحدها لا تكفي من أجل لقمة العيش لذلك نسعى في أعمال كثيرة ونكدح من أجل حياتنا ونستطيع أن نكتب دون قلق وأحيانا تكون الكتابة قاصرة عن التعبير لما نريد قوله إزاء القبح والجمال أيضا وإزاء الموت هناك الرغبة الأكيدة في الحياة .
هل الشعر ضرورة قد أجيب نعم وهنا لا أعني القصيدة التي تكتب بل الحياة التي يجب أن تعاش… وهنا الشعر يكون صديقا حميما وربما أقرب الأصدقاء الي القلب لأنه لايعاتب ولا يطعن وﻻ يخون .
أوفى الأصدقاء وأكثرهم غدرا …!
بمنظور اخر يرى الشاعر صالح قادربوه .الذي قضى قرابة ثلاثون عاما برفقته إنه أفسد حياته كاملة لكنه جعل لھا معنى، ويستأنف حديثه قائلا “ولو لم أكن شاعرا لصلحت حياتي كلھا لكنھا ستكون بلا معنى. إن الشعر في نظري ھو مذبحة يتحول فيھا الجميع إلى جثث لكن قلوبھم تظل تنبض. مذ كنت طفلا ارتبطت بالحساسية العالية تجاه كل الأشياء حولي: البشر والحيوانات والنبات والحشرات والسماء والتراب؛ لقد بدأت حياتي حزينا أبحث عن لحظة واحدة للفرح، فوجدت في البكاء أولا والحلم ثانيا واللغة ثالثا خلاصي، إن الشعر أوفى أصدقائي وأكثرھم غدرا، ولھذا أحرقت مخطوطي الأول ثم بعد أن ھربت بعيدا عنه تبعتني آلاف النصوص ورأيت نظرته في كل الوجوه فلم أجد أي ملاذ في العالم وعدت مستسلما لأكتب مخطوطات جديدة ثم أنشرھا. لم أكن أريد نشر الكراھية في العالم لكني أردت أن أزرع بذور الرفض، والرفض باب مھمل لحب الناس، فاتھمت بالغرور والقسوة والغرابة وتم نبذي أنا وكلماتي، غير أن ھذا النبذ ھو ما جعلني أنا وشعري نكبر ونمشي وتنبت لنا الأجنحة. قال لي أحدھم إن بين الجمھور متابعا أصم لكن عندما بدأت بإلقاء قصائدي وقف يصفق بحرارة فقد وصل قلبه إحساسي واتقاد نصوصي. خجلت من أن أجعل قصائدي باردة، فنفخت فيھا حرارتي وحزني القديم وجموح أحلامي، ولا يمكن لي أن أكون الشعر ولا يمكن للشعر أن يكونني، لكننا لا نكون إلا سويا. وأتمنى حين أموت أن يملأ قبري بالورق، الذي لطخته بالشعر ليتمكن النمل الذي كنت صغيرا أقطع رؤوسه بلا سبب أن يقضمھا ويقضمني ويطوف بھا أرض الشجن. بدأت حياتي شاعرا وعشت كل حياتي شاعرا ولا يمكن أن أموت إلا شاعرا، وحتما لن تموت أبدا قصائدي من بعدي.
رفقة الشعر فخا لتصيد القصائد
في مرحلة الثانوية بدأ الشاعر الروائي عبد الحفيظ العابد رفقته مع الشعر ،عندما اطلع على شعر العذريين صدفة فحازت تلك التجربة الإنسانية العظيمة مكانة كبيرة في قلبه يقول ” ثم توالت القراءات وتنوعت دون أن أغمس لساني في حبر القصيدة، إذ لا مواعيد مسبقة لولادة القصيدة ولا غيوم تسبق انثيالها، إنها تتنزل من مكان خفي تفاجئ الشاعر تهمس في أذنيه وترحل، لذا لا رفقة مع القصيدة لأنها آنية كل ما يتبقى بعد رحيلها هو الشعر؛ والشعر أثر يدل على القصيدة لكنه لا يوصل إليها، تظل القصيدة متعالية أما الشعر فهو سفلي، نحن نتبرك بالشعر في انتظار تجلي القصيدة، قد نمل رفقة الشعر لكننا أبدا لا نمل القصيدة، نعيش جمعية الشعر وقيوده آملين أن نجد حريتنا وذواتنا ولغتنا المنحازة في بياض القصيدة، نظل مفتونين بها وهي تعق أبوتنا وتتمرد علينا، نحرث مخيلتنا لكنها غالبا ما تمطر في غير مواسمها، فرفقة الشعر ليست إلا طقسا أو ربما فخا كي نحظى بصيود القصائد.
منتعلا دهشة الأسئلة…!
يصف الشاعر مفتاح يوسف البركي علاقته بالشعر قائلا “يقولون أن ثمة شيء يسكننا و لا يفارق ذواتنا المتشظية في زحمة هذا الكون , شيءٌ أشبه بكينونة الإنتشاء بكل ما هو لصيق بالفرح و البكاء ، أن نرتمي في أحضان البنفسج قوافي منهكة فتغمرنا الأقاليم الممطرة دون أن يستفزنا صيف الفراغ ، ربما هكذا يولد الشعر منتعلاً دهشة الأسئلة ليعيد قراءة أسفارنا و لا يفضي لنا بمجازته المجنونة إلا ونحن نتشرنق في غيبوبة الوجد الرهيب المهيب في سكرة الروح ، لطالما كانت لنا سيرة الليل و النهار و المطر و التراب و الماء و النار , لنا أصواتنا منذورة لدهشة الياسمين ، حتى احزاننا لها أجنحة لامعة تفتح أبواب الشهوة تطير بنا بعيدا ًمن داخل الحلم حتى سقوط الدمع في قوارير لا تشتهي النبيذ إلا من أصلاب الشعراء الدراويش ، فغواية أرق الشعر تُشرق من تخوم الحلم تشاطرنا خبز الحنين العاري في ملحمة هذي الحياة تسلخ ملامحنا لنظل كالأشباح نرى الأشياء نحاول معانقتها و هي لا ترانا سوى صور تمعن في التحديق و التحليق ، نرقب زنبقة الحلم السوداء ترتجي الربيع و هي معلقة على حائط بائس سجينة إيطار لا يعي بكاء اللون الذي يأكلهُ الغبار .
ويضيف البركي ”
ما أعرفه عن الشعر أنه كائن أشبه بالسحر متوجٌ بكل الأغاني الحلو منها و المر ، و بالأهازيج الشعبية التي كنا نسمعها بشجن لذيذ من أفواه الأمهات و الجدات اللواتي كن يطردن وحشة الحياة بإيقاع و نغم أسطوري المذاق ، شيء يسكن الروح لا يمكن رؤيته أو تفسير أعراضه و كينونته ، ربما يمكننا رصد حركته و حمحمة طينه و فوضى جنونه في حال نهاره و ليله ، هو كل هذا الجنون اللذيذ يأخدنا من حالة السكون إلى ضجيج من حُمى الشعر تتأجج فيه نار الشوق و لذة الألم هو كل هذه الحرائق التي تحدث داخل النفس البشرية الراكضة خلف قطيع من ذئاب الهواجس و إنفلات الضوء من رحم العتمة ، ربما كانت تجربتي مختلفة عن الشعراء الكبار الذين تتلمذنا و نحن على مقاعد الدراسة على أبجديتهم المتوجة بأجمل الود و الغناء ، فالشعر له نفس يتعلق بالزمان و المكان يختلف من روح شاعر الى آخر حسب بيئته و تربته التى نشأ و ترعرع فيها ، القبح و الجمال و الخير و الشر صور و أحداث تشد أذن الشاعر و الشعر في آنٍ واحد الى قرطاس يتأجج بالبياض و السواد و بالفقر و الموت و الحرمان إنه الحب الذي ينام على الرصيف و في الموانيء و في أحدائق اليتامى و المشردين إنه في رعشة اليد الباحثة عن لقمة العيش قبل أنطفاء الشمع في ليل القصيد ، الشعر هو ما يكتبنا و نحن لا ندري و هو حقيقة و نبوءة كل هذا الفرح و البكاء ، هو كل هذي الحياة التي نعيشها و نحن نحلم بقلم و ممحاة تعيد تشكيلنا ليبدأ خلق القصيدة من جديد .”