منصة الصباح

يا مريودْ فضّة ما رَبّينَا فِيك

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

 

مرود الكحل رقيقٌ ومصقول وناعمُ الملمسِ. وعلى حسب علمي، يُصنعُ من الخشب أو من الفضّة. والأخيرُ تحوّل إلى تعبير شائع شعبياً، كناية على جمال قوام المرأة. ويَردُ ذكره كثيراً في أغانينا الشعبية، وخاصة في الأفراح. وأتذكر منها واحدة، كانت تُغنّى في يوم المَحْضَر، وهو اليوم الأخير من العرس. كانت العروس تقف على منضدة صغيرة أو صندوق خشبي، أوسفرة خشبية بقوائم، رافعة يديها إلى السماء، وكأنها في حالة دعاء، ووجها مخفي تحت غطاء حريري، ويطلب منها أن تدور سبع دورات في المكان، والنساء يغنين من حولها:” جلّي ياكورابا جلّي ونجليك يامريود فضّة ما رَبّينَا فيك.”  وإلى حد الآن، لا أعرف ما هي الكورابا وما المقصود بها، وما دخلها فيما كان يجري ويحدث. هل هي مشتقة من الكُربَة ولهذا تناشدها النسوة بأن تنجلي؟ ربما. والله أعلم.  لكن المريود تصغير مرود. والصبي الذي كنته، آنذاك،  كان، كثيراً ما يتابع ذلك الطقس، في الأعراس، بعينين مشدوهتين، ومتسائلاً  في ذات الوقت،عن السبب الذي يدفع أم العروس وأخواتها وأهلها إلى البكاء بحرقة، وهن يغنّين تلك الأغنية بنبرات حزينة. ولأنّه كان صغيراً، بقلب مثل حبّة تين، ولم يذق بعد مرارة  الوداع،  لم يعرف، وقتذاك، المعنى المقصود في تلك اللوحة الوداعية الحيّة.

لم تكن الدنيا كما هي اليوم. كان عالماً مختلفاً، بمفردات مختلفة، وبساطته أقرب إلى السذاجة، ولا مكان فيه لتعقيدات العالم الحالي الذي نعيشه. عالم  كانت العروس تغادر فيه بيت أهلها، ولا تدخله إلا زائرة بعد أن يَحُول عليها حَولٌ من الإقامة في بيت الزوجية. تأتي مصحوبة بالنوبة والغيطة والزغاريد. أغلب الأحيان، تأتي الأبنة  زائرة، إلى بيت أبيها وأهلها، محمّلة بطفل حديث الولادة بين ذراعيها، قد يشبههم أو لا يشبههم في ملامحهم، وبالتأكيد لن يحمل اسم العائلة.

” يا مريود فضْة ما رّبّينَا فِيك.” شطر بيت، يتشبب بجمال قوام العروس، ومذكراً بلوعة الآسى والألم معاً للفراق. الأغنية تلك، قد يغنّيها، بدل أم العروس، عاشقٌ، كأن يرى بعينين دامعتين فتاته، في يوم عرسها،  وقد أختطفها رجل آخر لا تعرفه، ولم تلتق به في كل حياتها. لكنه، شرعاً وقانوناً، صاربعلاً لها، وهي زوجه، وعليها أن تحمل أطفاله، وأن تتدبر أمر العيش معه، بعيداً عن أهلها، وعن مرابع الطفولة والصبا، وبعيداً عن ولد الجيران الذي كان سرّها الصغير. فيما مضى من الزمن، رأيتُ كثيراً من أولاد الجيران يبكون. وكان صغر سنّي وسذاجتي، في كثير الأحيان، يتعرضان للاستغلال من قبل شباب وفتيات، في شارعنا، لنقل رسائل حب بينهم. وعاصرتُ، حين كبرتُ، كثيراً من قصص الحب، وتابعتها وهي تنمو وتورق مثل شجرة، لكن الثمار قطفها غرباء لا نعرفهم. جاءوا من بعيد، وأختطفوا بنات شارعنا من بيننا، وتركوا لنا الذكريات في كل حنيّة وزقاق، وعلى كل نافذة، وأمام كل باب، وفي الطريق إلى المدرسة.

” يامريود فضّة ما رَبّينا فيك.”

لم يكن عالماً مختلفا فقط، بل، أحياناً، قد يجوز وصفه بالسّادية. وكان الحب في مدينتنا، كما وصفه أحد أبنائها، الشاعر على رحومه:” بداية العذاب.” وكانت مراود الفضّة التي نحبّها ونعشقها، ونقتفي خطواتها سرّياً، على أمل اختلاس قبلة في زقاق خال من العيون، أكثر جسارة وجرأة منّا نحن الشباب، وأكثر عرضة أيضاً منّا للوقوع في متاعب واشكالات لا تعرف توقفاً. لكنهن كنّا يخاطرن. وتعلمن بسرعة من التجارب، كيف يتفادين الفخاخ والشراك المنصوبة في كل مكان.

شاهد أيضاً

موسى يؤكد ضرورة سرعة ودقة إدخال بيانات الحجاج للمنظومة الإلكترونية

أكد منسق المنطقة الوسطى أ (مصراتة – زليتن – الخمس – مسلاتة) علي محمد موسى …