في زاوية هادئة من رفوف النسيان، وبين دفتي كتاب طُبع عام 1983، ينبعث صوتٌ رصين دافئ من عمق الذاكرة الليبية، يروي تفاصيل حياة تتجاوز الفرد لتصبح مرآة لمجتمع بأكمله.
“ورقات مطوية” للكاتب محمد الأسطى ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو نصٌّ شاهد، يسرد محطات الزمن الليبي كما لو كان يخطها على جدران مدينة تقاوم الزوال.
ولد الكاتب في أواخر العهد العثماني، وبدأ تعليمه في المدرسة الرشدية، لينتقل بعدها بين مدارس الاستعمار الإيطالي والانتداب البريطاني، وصولًا إلى بداية العهد الملكي.
هذه الرحلة التعليمية والسياسية المعقدة صاغت شخصيةً مرنة، تتحدث العربية والتركية والإيطالية والإنجليزية، وتتنقّل بين ثقافات متضادة، دون أن تفقد جذورها.
تفاصيل صغيرة… ذاكرة كبيرة
ما يشدّ القارئ في “ورقات مطوية” ليس فقط تتبع الأحداث الكبرى، بل القدرة النادرة على التقاط التفاصيل اليومية التي صنعت وجدان المجتمع الليبي.
نقرأ عن الكروسة، الزردة، أوّل مقهى احتوى على غرامافون، وعن تلك اللحظات العابرة التي تشكّل نسيج الحياة: ضجيج الأسواق، نداء الباعة، أحاديث المقاهي، وحكايات الناس.
ليلة مرعبة.. ذاكرة الغزو كما عاشها الناس
في أحد فصول الكتاب، وتحت عنوان “ليلة مرعبة”، يروي محمد الأسطى لحظة الغزو الإيطالي لليبيا بطريقة تستحضر وقع الخبر على الناس أكثر من سرد المعركة ذاتها.
تتلمّس في السطور ارتجاف القلوب، وضياع الاتجاهات، وملامح الذهول على الوجوه.
ما يميّز هذا السرد هو أنه يُعيد رسم المشهد لا كسياسي، بل كإنسان عاشه بجميع حواسه.
طرابلس كما لم تُر من قبل
يوظف الكاتب معرفته الدقيقة بأحياء طرابلس القديمة، ليحوّل النص إلى ما يشبه الخريطة الزمنية.
حين يذكر مكانًا، يحرص أن يدلّك على موقعه الحالي، وكأنّه يقول للقارئ: “هنا كنا، فانظر كيف كنا نعيش.” وهكذا يتحوّل الكتاب إلى وثيقة حضرية تروي تحوّلات المدينة في عمرانها، وعاداتها، وروحها.
“ورقات مطوية“: أكثر من سيرة، أقل من رواية، لكنه تاريخ لا يُنسى
هذا العمل النادر يقدّم للباحثين والمحبين لذاكرة ليبيا مادة غنيّة لفهم الحياة الليبية خلال النصف الأول من القرن العشرين:
التعليم، السياسة، اللغة، الحياة اليومية، والهوية الثقافية. إنه كتاب يثبت أن السيرة الذاتية، حين تكتب بصدق وحسّ تاريخي، تتحول إلى وثيقة وطنية لا تقدّر بثمن.
من يقرأ “ورقات مطوية” لا يقرأ فقط قصة محمد الأسطى، بل يقرأ ليبيا كما كانت، ويستعيدها كما لو أنها بين يديه.