منصة الصباح

هل يمكن أن يكون القاتل كتاب؟

خلود الفلاح

في هذا الكتاب “في مديح القارئ السيئ ـ منشورات صفحة سبعة ـ الطبعة الأولى ـ 2022 ـ ترجمة: جلال العاطي ربي) يشير الكاتب الفرنسي مكسيم ديكو إلى أن مصطلح القراءة السيئة هو الذي يحدث بواسطة التقمص والتماهي، من دون اتخاذ المسافة الضرورية ولا التحلي بصفاء الذهن وسلامة الحس.

ويعلل بذلك إلى واقعة الشاب الذي قام بتفريغ رصاصة قاتلة في رأسه بسبب حب مستحيل، ويعني ذلك، بحسب مكسيم ديكو، إن هذا المنتحر هو أحد شخوص رواية آلام الشاب فيرتر يوهان غوته. فأمام استفحال الظاهرة واتساع نطاقها، خُظر الكتاب ومنع من التداول في عديد الدول الأوروبية في القرن الثامن عشر.

وقد أضحت هذه العدوى معروفة تحت مسمى الانتحار المحاكي، الذي عمده عالم الاجتماع الأمريكي ديفيد فيليبس باسم “تأثير فيرتو”.

وأفاد مكسيم ديكو، أن قارئ رواية “البحث عن الزمن المفقود” الصادرة 1914، للفرنسي مارسيل بروست صار منصرفا إلى إسقاط أفكار الرواية عليه. وهذا ما يدفع إلى القول إن هذا الاسقاط أنتج قراءة تستند إلى كون قارئها لا يتماهى مع النص، بل يقرأ ذاته عبره.

وهذه طريقة أخرى من طرق القراءة السيئة.، إذ ما عاد الأمر متعلقا بمحاكاة النص وتقليده، وإنما تشويه معالمه وإسقاط الأحداث على نفسه.

 القراءة السيئة والنساء

هل هؤلاء قراء سيئين؟ الإجابة لا، لأنهم يخطئون معنى النص أو يذهبون عكس ما ذهب إليه. هم قراء سيئون لأنهم.  من ناحية يقرأون على خلاف ما يتكهن النص، ومن الناحية الأخرى يعكسون ذاتهم على النص.

أن القراءة تنطوي على معنيين، فهي بقدر ما تدل على تأويل نص بقدر ما تشير إلى فعل القراءة المحسوس، ومن هذا المنطلق، يعرف مكسيم ديكو القارئ السيئ “هو الذي لا يتبع، سواء في فكره أو انفعالاته وعواطفه، نفس المنطق الداخلي الحميم للنص، أو هو ذلك القارئ الذي لا يقرأ، عمليا، النص كما يريد النص، بمعنى إنه، على الأغلب، لا يقرأه كلمة كلمة، وسطرا سطرا.”

وبحسب مكسيم ديكو، أن اختيار “القارئ السيئ” كعنوان، هو في الواقع لفظ عام يغطي مجموعة واسعة من الوجوه؛ لأنه لا يوجد قارئ سيئ ولكن قراء سيئون. من جهة أخرى، لست مخطئًا في الإشارة إلى أن القراءة السيئة ظلت لزمن طويل لصيقة بالنساء. لماذا؟ لأنهن كنّ يُعْدَدْنَ سجينات عواطفهن، ويجسدن مثالًا نموذجيًّا للقارئ السيئ المتماهي. لذلك فقد جرى السعي إلى تأطير قراءاتهن، من حيث إنه إذا صح أن النساء المتعلمات خطيرات، فالنساء الضائعات أخطر.

 قراءات الطفولة

ويتسأل مكسيم ديكو، لماذا يتم النظر إلى القراءة السيئة بوصفها لعنة ونقمة وإلى القراءة الجيدة بوصفها نعمة، لكن ماذا لو كان القارئ السيئ سعيدا؟ إن إثارة هذه الفرضية قد دفعت المهتمين بالشأن الأدبي إلى مواجهة وجهة نظرهم. إنهم لم ينجحوا في التخلص من القارئ السيئ. وهذا يعني أنه بدلا من ابتكار طريقة جديدة، وهي الذهاب إلى قراءات الطفولة وبدلا من أن يصيروا قراء سيئين، رغبوا في أن يصيروا قراء سيئين مرة ثانية.

وبحسب مكسيم ديكو، لقد اثبت القارئ السيئ أهميته، في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وترك بصمات أصابعه في كل ركن من الأعمال الأدبية. وبات من المستحيل الآن أن نفقد أثره.

يشير مؤلف الكتاب إلى ما يسمى خصخصة القراءة وهي أن القارئ السيئ الصاخب ليس نفسه القارئ السيئ الذي يقرأ بصمت، بهذه الطريقة تحضر الذات، ولا يعد الفرد خاضعا مباشرة لجماعته البشرية وإنما لإرادته الحرة. وبالتالي يملك سلطة على معنى النص.

ويرى أن التوجس من القارئ السيئ لا يمكن أن ينفصل عن توجس آخر وهو التوجس من الكتاب السيئ، فالقارئ السيئ والكتاب السيئ أمسيا منذ القرن السابع عشر، خطراً عاماً حقيقياً وموضوع تأمل وتفكير، تسير على إيقاعه الحياة الفكرية برمتها، وهكذا سيرسخ القرن السابع عشر أن الكتاب الجيد قد يصنع القارئ السيئ، وأن القارئ الجيد بدوره صنيعة للكتاب الجيد، وبناء على ذلك، سيكون القارئ الجيد مبدعا خلاقا، ولكن حريته ستظل رهنا بالنص.

ويسعى مكسيم ديكو إلى توضيح ما معناه أن القارئ النموذج ليس في مطلق الأحوال قارئا مثاليا، والقارئ السيئ ليس دائما نقيض القارئ النموذج. ويضيف: يمكن أحيانا للنص أن يطور آلية قد تحولك إلى قارئ سيئ وخاصة في الروايات البوليسية والقصص المضللة التي ستجبر القارئ على إساءة القراءة، فالقارئ السيئ مطلوب من قبل النص، إنه القارئ النموذج. وعليه فالقارئ الجيد، ذلك الذي ينتبه إلى ما قدم النص.

شاهد أيضاً

فتنة الورّاق في طبعة جديدة

صدر هذا الأسبوع في طبعة جديدة «فتنة الورّاق… من تراث نقد الفكر الديني في القرن …