منصة الصباح

نهاوند

يونس الفنادي

(… فتعالى واسمع قصةً للإنتصار للشعب للأرضِ التي تلد الفخارْ تلد النهارْ…)

لا يمكن لأي متذوق للفن الأصيل والموسيقى في ديوان الطرب الليبي المميز أن يتجاوز هذه القصيدة التي لحنها الموسيقار علي ماهر في أواخر الستينيات من القرن الماضي ولازالت حاضرة وخالدة في مشهدنا الغنائي والوطني حتى الوقت الحالي بكل طاقتها الحماسية الزاخرة بنشوة الاعتزاز والفخر، وعذوبة المفردة الجميلة، ومساحة الخيال الخلاب التي أبدعها الشاعر المؤلف. وتعتبر هذه القصيدة الرائعة (بلد الطيوب) هي أول قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحى يقوم الموسيقار علي ماهر بتلحينها بعد أن اختارها من ديوان الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر لتكون التحدي الأول بالنسبة له في تلحين الشعر الفصيح الذي كان حتى ذاك الزمن محتكراً في ليبيا من الفنان الراحل كاظم نديم. وإن كان الجميع يتفق على صعوبة تلحين هذا النوع من القصائد الشعرية باللغة العربية الفصحى على خلاف نصوص الاغاني المكتوبة باللهجات العربية المحلية، فإن الموسيقار علي ماهر استطاع من خلال هذا اللحن الابداعي في رائعته (بلد الطيوب) أن يبرز مقدرته على تطويع الكلمات الفصحى لتنساب في جمل موسيقية رقيقة مؤثرة، وتقديمها عبر أنغام حسية تظل لا تتوقف الحياة فيها مهما توارت السنوات خلفها:

(… بلدي وما بلدي سوى حقق الطيوب … ومواقع الأقدام للشمس اللعوب … أيام كانت طفلة الدنيا الطروب .. فالحب والأشعار في بلدي دروب .. والياسمين يكاد من وله يذوب .. ولا يتوب ..)

ويحكى أنه في سنة 1968 بعد أن أنهى الفنان الموسيقار علي ماهر تلحين هذه القصيدة اقترح على صديقه الفنان والمطرب المغربي عبدالهادي بلخياط بأن يقوم بأداءها وتسجيلها، ولكن الأستاذ الراحل خليفة التليسي الذي كان وقتها وزيراً للأعلام والثقافة أشار على الفنان علي ماهر بأن يختار صوتاً ليبياً يؤديها، وذلك لتميز مضمونها بالتغني بحب ليبيا والاشادة بأصالتها وتاريخها المجيد وبالتالي من الأفضل أن يكون المطربُ ليبياً يبرز ذاك المضمون العميق بكل ما يحمله من حب وعشق لوطنه ليبيا. وبالفعل استجاب الموسيقار علي ماهر لهذه النصيحة واختار الفنان المرحوم محمود كريم لأدائها، والذي وفق كثيراً جداً في إبراز جماليات مفرداتها العميقة الدلالة، وأنغامها الموسيقية الشجية القوية، وبالتالي استطاع أن يحقق لها انتشاراً لا مثيل له في مسيرة الأغنية الليبية الوطنية، والدليل على ذلك أن رائعة «بلد الطيوب» لازالت حية في الوجدان الليبي طوال أكثر من نصف قرن على نظمها وتلحينها وأداءها، تنشدها أجيال متتالية من الليبيين بكل الزهو والحب والافتخاروكأنها النشيد الوطني للبلاد:

(… الليلُ في بلدي تواشيح غناء

وقبابُ قريتنا حكايات إباء

وبيوتُنا الأقراط في أذن السماء

بلدي ملاعب أنجم تأتي المساء

لتقول هذي ليبيا بلد الضياء

كرمٌ وفاءٌ … ليبيا ليبيا)

وليست قصيدة (بلد الطيوب) وحدها التي تمكن بها الموسيقار علي ماهر من الولوج إلى أعماق المستمع وتوطين معزوفاته الرقيقة، وجمل موسيقاه المؤثرة في وجدانه ومشاعره، بل كثير غيرها من الألحان الجميلة نالت هذه الدرجة من الإعجاب والقبول لدى المستمعين واستحق عليها الثناء والتقدير.

وعلى سبيل المثال فإن قصيدة «قناعك» التي كتبها المرحوم محمد الطاهر شقليلة «ابن الطاهر» لازالت تتدفق بأحاسيسها الرقيقة وهي تشرع فضاءاتها المتراقصة لتهفو بالمستمع وتسافر به في عوالم أرحب، وخيالات أجمل، جسدتها الكلمة المعبرة بعمق الإحساس، وتدفق المشاعر الوجدانية المرهفة. وقد استهل الموسيقار علي ماهر هذه القصيدة بإبراز صوت المطرب على حساب خفوت شبه كامل للآلآت الموسيقية كافة حين يقول:

قناعك البسيه أو اخلعيه ..

وقلبك اصدقيه أو اخدعيه

وإن كان الغموض له ..

معاني محببة لديك تصنعيه

وبعد هذين البيتين من هذه القصيدة الجميلة يتصاعد نسق الايقاع الموسيقي بشكل خفيف وواضح ليأسر المستمع عبر أنغامه المتدرجة في الرقص الطربي والتجلي الروحي، وللقيام بهذه المهمة فقد تبادلت عليها عدة آلات موسيقية وظفها الموسيقار علي ماهر بالتناوب توظيفاً بارعاً ومتقناً، وقامت ببعث روح المفردات الشعرية بكل أريحية وتناغم في المتلقى، فجاءت رقراقة .. هادئة … آسرة … بكل ما تحمله من دفء وانسيابية حسية في تمازج مع صوت رقيق لمطرب متمكن:

فقد يحلو الخداع لدي هيام ..

كزيف قد يروق لصانعيه

فليس لديك ما تخفيه عنـّي ..

ولا سرٌّ لديّ لتنزعيه

وقلبُك لا يزالُ رفيقَ قلبي ..

يجاذبُه و يعرفُ ما يعيه

بعد هذه المقدمة الموسيقية الخلابة صار المتلقى سابحاً في فضاء اللحن الموسيقي الجميل الذي أبدعه الموسيقار علي ماهر في ترجمة النص المكتوب، لتجيء بعده مباشرة جملة لحنية جديدة ترتقي به درجات في سلم الانتشاء والامتاع:

وقلبي بين كفيك اقرئيه ..

وإلا فاستنطقيه لتسمعيه

ففي صفحاته شعرٌ ولحنٌ ..

بدونك لا يطيبُ لسامعيه

ومثلما كان الاستهلال الموسيقي هادئاً وبسيطاً في جمله اللحنية جاءت خاتمة قصيدة (قناعك) للموسيقار علي ماهر بنفس درجة ذاك الاستهلال لتنتهي بصوت المطرب غارقاً في إحساسه ومنصهراً في أداءه الرائع الذي طغى على كل الآلآت الموسيقية وصداها المدوي، حين توالى في تكرار الكلمة الخاتمة في القصيدة … لا أدعيه :

وفي طياتِه صدقٌ ونـُبلٌ .. هُما الحبُ الذي لا أدّعيه

أما قصيدة (ولوع) التي أداها الفنان محمد السليني، فقد قدم فيها الفنان الموسيقار علي ماهر لحناً موسيقياً متنوعاً في درجات إيقاعه وفواصل نغماته المتسارعة، متيحاً براحاً كبيراً لصوت المطرب محمد السليني بمساحاته الواسعة وطبقاته العالية للتحليق في فضاء اللحن الموسيقى الجميل، والتغني بكلمات القصيدة التي استهلها بصوت هاديء مفعم بالرقة في تناغم كبير بين موسيقى آلات الكمان الأورج والقيثار ودقات الايقاع الهادئة وهو يقول:

(إن أسعدتني أصبحتُ طفلاً

عمره الفرق بين عمري وعمرك

أو أشقيتني أمسيتُ كهلاً

عمره الفرق معه عمري وعمرك

وأنا أحيا لأحبك وأحبك

يا إلهي يا الله كم أحبك..)

وبعد انتهاء هذا المقطع مباشرة والذي تعالى فيه منتشياً صوت المطرب محمد السليني بدفئه المعهود، يبرز صوت الناي في جملة موسيقية تبادلية مع مجموعة أصوات الكمان، لتمهد جميعها لحضور السؤال الذي ظل يتوالد ويتعالى مجدداً بنفس النسق:

(ما الذي أبعدك عني ؟ ما الذي أغضبك مني ؟

أنا أنفاسي حبك وأنا نبضي حبك

أهو حبٌّ جديد؟ أهو قدرٌ عنيدٌ ؟

فاشهدي أني شهيد قاتلي بالغدر حبك

وأحبك وأحبك

يا إلهي يا الله كم أحبك..)

بعد نهاية هذا المقطع وفي نقلة جميلة يقدم لنا الفنان الموسيقار علي ماهر وصلة إيقاعات طربية، مع دقات الطار الخفيفة، لتتهادى بالتوازي مع نغمات الأورج وأصوات الكمان وزفرات الناي الصادحة بالفرح، في ظل تقسيمات موسيقية قرارية وجوابية، تنتهي بصوت الفنان محمد السليني المفعم بالبهجة، ليشدو معبراً عن قيمة محبوبته في أعماقه، ومن ثم يختتم الموسيقار علي ماهر هذا المقطع باستعادة واسترجاع الجزء الأخير من المقطع السابق ليخلق نوعاً من التواصل اللحني بين المقطعين الجميلين:

(أنتِ ليّ كلُّ الأماني

أنتِ في شعري المعاني

أنتِ لحني عندما أحضن عودي وأغني

أنتِ سرّي .. أنت جهري … أنت ظني

ما الذي أبعدك عني ؟ ما الذي أغضبك مني ؟

أنا أنفاسي حبك وأنا نبضي حبك

أهو حبٌّ جديد؟ أهو قدرٌ عنيدٌ ؟

فاشهدي أني شهيد قاتلي بالغدر حبك

وأحبك وأحبك

يا إلهي يا الله كم أحبك..)

لا يمكن للمتابع للمشهد الموسيقي والفني الابداعي في ليبيا إلا التأكيد على أن الموسيقار علي ماهر قد أسهم بشكل كبير في إضافة الكثير من الألحان الجميلة لمسيرة الأغنية الليبية رفع بها مستوى الذائقة الفنية لشريحة كبيرة من المحبين للفن والطرب الأصيل وسجل تطوراً مميزاً في مجال تلحين القصائد الشعرية باللغة الفصحى مما جعله يظل لعقود عديدة متربعاً على عرشه بلا منافسين حقيقيين.

 

شاهد أيضاً

زليتن تشهد استقرارًا في الأوضاع بعد أزمة المياه الجوفية

تواصل وزارة الحكم المحلي جهودها للسيطرة على الأوضاع في بلدية زليتن وتعويض المتضررين وإيجاد حلول …