بقلم/ سليم يونس
في تبريرها لبؤس الواقع العربي يطفو على سطح مشهد الحياة السياسية العربية، سواء بين النخب المثقفة والأحزاب السياسية وحتى صناع القرار وصولا إلى المواطنين المتابعين للشأن السياسي، تحضر “نظرية المؤامرة وبشكل يقيني، كي يسهل رد هذا الواقع المجافي في تجلياته بالغة السوء؛ والمحمل بهذا الكم من الفوضى والإخفاقات والمصاعب والكوارث التي تعيشها شعوب المنطقة إلى نظرية المؤامرة.
وتخبرنا التجربة التاريخية الممتدة إن هذا النوع من التفسير للواقع؛ بات للأسف نمطا للتفكير عند العرب، بل إنه استشرى كالوباء في كل الأوساط، سواء في قطاعات المثقفين أو بين أقسام الرأي العام.
وعلى ضوء هذا التقرير يجري تفسير تلك الأحداث التي تعيشها المنطقة في صورة عامة، وفي كل دولة بشكل خاص، بحيث تحتل العقل السياسي العربي؛ (والعروبة هنا هي: بمعناها الحضاري والثقافي ) الذي أدمن نتيجة العجز المستمر تحميل هذا العجز للآخر، فعِوضا عن قراءة وتفسير الواقع بشكل موضوعي علمي صارم؛ ومن ثم البحث في أسبابه وكيفية مواجهته، يجري إلقاء سبب خيباته وعجزه المزمن على العامل الخارجي، بالاتكاء على نظرية المؤامرة من الموقع السلبي للمعادلة، وهو اتكاء سهل ومريح للذات العاجزة ابتداء.
وهذا النوع من السلوك السلبي يجب أن لا يجعلنا نتجاهل أن هناك من يستخدم نظرية المؤامرة في تفسير المواقف والأحداث وربما التاريخ أيضا؛ وهنا يجب التميز بين التفسير التآمري والتفكير التآمري، ذلك أن التفكير التآمري ؛هو ذلك الجهد الذهني الذي يصنع المؤامرة ويحيكها، ولا ينصرف بحال إلي جهد هؤلاء الذين يستخدمونها في تفسير الأحداث. فما يفعلونه هو “تفسير تآمري” وليس “تفكيرا تآمريا” وهناك فرق بين المعنيين.
ولفهم طبيعة هذه الثنائية يجب البحث في تفكيك مفهوم نظرية المؤامرة بردها إلى أبعادها المعرفية، ولعل أول شروط ذلك هو التعاطي الإيجابي، أي تجاهل الأحكام المسبقة، لكن مع التسليم بأن هناك تضارب، والكثير من التناقض في مصالح الدول، يجري تفسيرها حسب موقع كل طرف في المعادلة السياسية التي تحكم تلك العلاقات ارتباطا بميزان القوى القائم حينها، ففي حين تراها القوى القادرة على أنها ضمن حدود مصالحها المشروعة؛ تراها دول وقوى أخرى أنها مؤامرة، ولذلك يذهب بعض المفكرين إلى اعتبار أن التآمر هو قلب السياسة.
لأنه حسب بعض الباحثين فإن كل مطلع وملم بعلم السياسة يعرف أن السياسة هي سعي لتحقيق المصالح، كون المصلحة هي الهدف الأول الذي تسعى إليه الدول والأنظمة في سلوكها السياسي الداخلي والخارجي، وتحقيق المصلحة الوطنية لدولة ما، يجري عبر إحدى الطريقتين، إما بالسلم وحسب قواعد القانون والأعراف الدولية. أو بالحرب والصراع وما يصاحبهما من خداع ومناورة وتآمر.. والوسيلتان معا هما السياسة أو هما وجهان لعملة واحدة، هي السياسة، .. والقول إن السياسة لا تعرف الصراع والتآمر لا يستقيم مع فهم السياسة على حقيقتها كفعل بشري.
هذا التوصيف القاسي يعيدنا إلى القراءة التي تقول بأن الدول تعمد إلى الخداع والمناورة وحتى الحرب، إذا لم تستطع تحقيق مصالحها السياسة بالمكشوف وعن طريق القانون والاتفاقيات؛ ووفق هذا التفسير فإن لكل دولة من دول العالم سياستان: سياسة معلنة مزينة بشعارات ومبادئ أخلاقية وقانونية، وسياسة سرية أو خفية يرسمها استراتيجيون وأجهزة المخابرات يطبقونها بالخفاء، أو يلجأون إليها وقت الحاجة.
وإذا كان ذلك من أبجديات العلاقات السياسية، على قاعدة أنه ما من سياسية تخلو من تآمر، غير أن المشكلة تكمن في عدم إدراك البعض لذلك، ومن ثم الركون السلبي لفعل المؤامرة في حال وجدت، لأن السؤال عندها هل يمكن لأي مؤامرة أن تخترق جدران القلعة الحصينة بالمعني السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني؟ لا أعتقد ذلك، ولهذا فإن عوامل الضعف الذاتي هي من تعطي للمؤامرة حضورها في الواقع، لأنه من الصعب على أي مؤامرة أن تخترق شعبا محصنا بالحرية والديمقراطية والعدالة، لكل أبنائه.
ونتيجة هذا العجز يجري استحضار المؤامرة والتهويل بها باعتبارها عملا عدائيا خارجيا، وهو الذي يقف وراء كل ما تعانيه تلك الدول، وذلك بهدف تهويل القول بالمؤامرة الخارجية بهدف توظيفها سياسيا لخدمة مصالح وأهداف محددة، وهذا يجعلنا ندقق في ملابسات استخدام هذا المصطلح، أي هل هناك مؤامرة حقيقية؟ أم إنها لا تعدو أن تكون محاوله للهروب إلى الأمام من أجل التغطية على عجز ذاتي، له أساسه الموضوعي؟ وكأن التخفي خلف نظرية المؤامرة يمكن أن يجنب القائلين بها، المسؤولية عما وصلت إليه الأمور.
وللأسف يكاد المشهد العربي يمتلئ صخبا بضجيج المؤامرة من بعض القوى والأنظمة السياسية التي تحاول رد الواقع المتردي إلى مؤامرة خارجية لتخفي عجزها وفشلها ولتتهرب من تحمل المسؤولية عن تلك الأوضاع المتردية التي تعيشها شعوبها، وهي بذلك تسعى لإبعاد الأنظار عنها باعتبارها مسؤولة عن احتجاز تطور شعوبها على كل المستويات بإلقاء تبعة كل هذا الخراب على الخارج، وهي محاولة بائسة لاستخدام نظرية المؤامرة كمشجب تعلق عليه كل الأخطاء والتجاوزات وأوجه القصور والخلل في المجتمع العربي.
وأعتقد أننا لا نجافي الواقع عندما نقول إن العقل العربي استراح إلى مقولة المؤامرة الخارجية، من أجل تبرئة الذات من خطاياه كونه اعتبر على الدوام أن كل ما أصابه هو نتاج مؤامرة لا قبل له على ردها، وهذا فيما نعتقد هو مكمن الداء.